د. زيد الحمد
((يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الّتي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)) (المائدة 5/21)
النصّ أعلاه هو قول القرآن الكريم الذي يدلّ بوضوح على "حقّ تاريخيّ" لبني إسرائيل في الأرض المباركة، حسب خطاب موسى عليه السلام لقومه، ولا أنصح أحدًا بإنكاره.
لكن، كيف اكتسب بنو إسرائيل ذلك الحقّ، وماهي مقتضياته؟
يسوق سفر التكوين/ إصحاح 28 قصّة "الوعد الإلهيّ" كما يلي:
" فَخَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نحو حَارَان (في تركيّا حاليًّا). وَصَادَفَ مَكَانًا وَبَاتَ هُنَاكَ لأَنَّ الشَّمْسَ كانت قد غابت، ... ، فَاضْطَجَعَ في ذلك الْمَكَان.
وَرَأَى حُلمًا؛ وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَ ذا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةً وَنَازِلَةً عَلَيْهَا، وَهُوَ ذا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: "أَنَا الرَّبُّ إلهُ إبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإلهُ إسْحَاقَ. الأَرْضُ الّتي أَنْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا أُعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِك ...".
فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ من نَوْمِه ... وخَافَ وَقَالَ: "مَا أَرْهَبَ هذَا الْمَكَان! مَا هذَا إِلاَّ بَيْتُ الله، وَهذَا بَابُ السَّمَاء".
وَبَكَّرَ يَعْقُوبُ فِي الصّباح... وَدَعَا اسم ذلِكَ المكان "بَيْتَ إِيل"، وَلكِن اسم المدينة أَوّلاً كان لوز." (انتهى)
النصّ السابق توراتيّ طبعًا، وعدا عن كون معالجة نصوص الإسرائيليّات مرهقًا فإنّ التحريف يمكن أن يكون اعتراه، لكنّه بالنسبة لأهل الكتاب كلام سماويّ بدلالات مقدّسة ويقيم عليهم الحجّة، ونحن نقدّمه من هذا المنطلق.
وهكذا يسوق القصّة نفسها ابن كثير رحمه الله بلغة تراعي مشاعر المسلمين: "فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم، فأدركه المساء في موضع فنام فيه؛ أخذ حجرا فوضعه تحت رأسه ونام. فرأى في نومه ذلك مِعْرَاجًا منصوبا من السماء إلى الأرض، وإذا الملائكة يصعدون فيه وينـزلون، والربّ تبارك وتعالى يخاطبه ويقول له إنّي سأبارك عليك وأكثر ذريّتك، وأجعل لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك. فلما هبّ من نومه فرح بما رأى، ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالما ليبنينّ في هذا الموضع معبدًا الله عز وجلّ، وأنّ جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره. ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهنا يتعرّفه به، وسمّى ذلك الموضع بيت إيل أي بيت الله، وهو موضع بيت المقدس اليوم (الذي بناه يعقوب بعد ذلك)". (انتهى)
وكما هو بارز في القصّة، يعقوب "سرى" ليلاً إلى "موضع بيت المقدس اليوم" (حسب ابن كثير)، ثمّ رأى رؤيا "المعراج" إلى السماء. وبناء على الحادثتين فإنّ الربّ يمنح يعقوب تلك الأرض له ولنسله.
ممتاز...
قبل ذلك، ما ليعقوب خاصّة وللأرض المباركة، إلاّ أنّه من نسل إبراهيم؟؟ يجتمع في ذلك مع بني إسماعيل لا فضل لأولئك على هؤلاء. ممّا اقتضى وعدًا إلهيًّا مخصوصًا ليعقوب بناء على حادثة إسراء إلى المسجد الأقصى، حيث رأى هناك رؤيا المعراج.
وبعد الحادثة وبناء عليها بالتأكيد؛ ادّعى الولاية الخاصّة على الأرض المباركة، وقَبِلَ بنو إسماعيل وبنو العيص بولاية بني إسرائيل على الأرض المباركة، وازدهى الأخيرون منذئذٍ بأنّهم "شعب الله المختار".
أمّا المكان، فأسماه يعقوب المسجد -- (بيت الله / بيت إيل)
الأقصى -- (باب السماء)؛ حسب النصّ التوراتيّ أعلاه.
ذلك النصّ التوراتيّ أعلاه هو النص ّالوحيد في ما يدعى بالعهد القديم الذي يعد يعقوب عليه السلام بالأرض المباركة له ولبنيه بعيدًا عن أبناء إسماعيل عليه السلام، وهو بذلك حجّتهم الوحيدة بهذا الصدد.
مقتضى ولاية بني إسرائيل للمسجد الأقصى
تبيّن الإسرائيليّات في مواقع متعدّدة أخرى أنّ حقّ بني إسرائيل بالأرض المباركة مرتبط بعهد من طرفهم بالدعوة إلى الله، وليس بانتمائهم العرقيّ ليعقوب، أو لسلسلة من الأنبياء والمؤمنين.
في حلية الأولياء عن عكرمة قال أنّ الله تعالى قال: "إنّ الله عز وجلّ يريد أن يذكر شأن ناس من بني اسرائيل. إنّي عمدت إلى عباد من عبادي ربّيتهم في نعمتي واصطفيتهم لنفسي فردّوا إليّ كرامتي وطلبوا غير طاعتي وأخلفوا وعدي، ...، فويل لهؤلاء الذين عظمت خطاياهم وقست قلوبهم وتركوا الأمر الذي كانوا عليه ...". فقال نبيّ من أنبيائه: "يا ربّ من رحمتك أتكلّم بين يديك، ... إنّك مخوّف هذه القلوب، ومهلك هذه الأمّة، وهم ولد خليلك إبراهيم وأمّة صفيّك موسى وقوم نبيّك داود...". قال الله تعالى: "إنّي لم أستكثر بكثرتهم، ولم أستوحش بهلاكهم، وإنّما أكرمت إبراهيم وموسى وداود بطاعتي، ولو عصوني لأنزلتهم منزل العاصين". (انتهى)
فولايتهم على الأرض المباركة ولاية استخدام، لا ولاية استملاك.
يعقوب عليه السلام مثلاً، صاحب الوعد بذاته، قضى المدّة التي قضاها في الأرض المباركة يدعو إلى الله، بدويًّا راحلاً يحترف الرعي ولا يقتني أرضًا، وهكذا تبعه أولاده على النمط نفسه. لقد كان يوسف عليه السلام هو نقطة التغيّر في نمط حياتهم عندما هاجر إلى مصر وصار أمين خزائنها بعد تجربة تغيّر مريرة، وقد استقبل أهله بقوله: ((وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ)) (يوسف 12/100).
هكذا كان. وما حدث بعد ذلك ليست وعودًا إلهيّة بأيّ شيء إضافيّ، إنّما هي تشجيعات لبني إسرائيل على تحقيق الوعد الذي تلكّؤوا فيه وحيازة حقّهم بناء عليه، بالإضافة لتفاصيل الصراع من أجل تلك الغايات.
ومصادر التاريخ صريحة في بيان الفشل الذريع لبني إسرائيل في القيام بالمطلوب منهم من أمور الدعوة إلى الله وضرب المثل الأعلى للمؤمنين، ناهيك عن ولوغهم في الإفساد إلى حدّ إعاقة أيّ إصلاح. قال تعالى: ((لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا، كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ)) (المائدة 5/70)
وهكذا، الفاشل في وظيفته ينهى عقده ويُفصَل من عمله، ثمّ يسلّم مفاتيح المكتب ويغادر، أليس كذلك؟ ... فلأيّ غرض يريد بنو إسرائيل الأرض المباركة الآن، ولم يعد لهم فيها أيّ دور مرتجى إلاّ الإفساد في الأرض؟
والله تعالى أعلم.