لا يعتبر الشيخ فرحان السعدي أبرز أتباع القسام فحسب، بل كان المحرك الذي أشعل الثورة الكبرى عام 1936م، تاركاً بصمات الشهيد عز الدين القسام على الثورة، وعلى مسيرة النضال والجهاد في فلسطين على مدار أكثر من سبعين عاماً.
حياته ونشأته
ولد الشيخ فرحان السعدي في قرية المزار قضاء جنين عام 1858م، ودرس في كتاب القرية ثم أكمل في مدرسة جنين الابتدائية، وكان مثابراً في شبابه على حضور الدروس الدينية في المساجد، بحيث عرفه الناس بالشيخ فرحان، وذكرت بعض المصادر أنه أكمل دراسته في المعهد الأحمدي للعلوم الدينية واللغوية في عكا.
عمل الشيخ إماماً لأحد مساجد مدينة بيسان القريبة من قريته، وكان الشيخ أحد النشطاء المحرضين على الاحتلال والمدافعين عن حق العرب في فلسطين أمام الهجمة الصهيونية التي كانت ترعاه بريطانيا، وشارك في ثورة البراق عام 1929م وألف مجموعة من المجاهدين في منطقة جنين، ليسجنه الاحتلال البريطاني لمدة ثلاثة أعوام، وبعد الإفراج عنه تواصل مع الشهيد القسام وانضم إلى مجموعاته.
قدم الشيخ فرحان الدعم للقسام وساعده على تجنيد المجاهدين في منطقة جنين وتعريفه على المنطقة وأبنائها، فالقسام كان يسعى لتوسيع نطاق عمله من حيفا جنوباً ليشمل كامل فلسطين، فكان فرحان السعدي خير عونٍ له، وقبل استشهاده بأيام اجتمع القسام مع السعدي في قرية نورس القريبة من جنين، وكان الاتفاق أن يلتقيا في وقت لاحق. لكن شاءت الأقدار أن يستشهد القسام.
كان السعدي أحد أبرز مساعدي ورجال القسام، إلا أن مجموعات القسام لم تكن تنظيماً بالمعنى المعروف، فلا يمكن القول أنه ترأس التنظيم بعد القسام، إلا أن مبادراته في الميدان جعلته أبرز رجال القسام على الإطلاق، وبالرغم من أن عمره قد بلغ 77 عاماً يوم استشهد القسام، إلا أنه كان يعمل في الميدان مثله مثل ابن العشرين عاماً.
ثورة عام 1936م – المرحلة الأولى
كان الشيخ فرحان السعدي الشرارة التي أطلقت ثورة عام 1936، ففي 17/4/1936م قام هو ومجموعة صغيرة من رجاله (لا يتجاوزون الثلاثة) بنصب حاجز على طريق عنبتا طولكرم، وقاموا بتفتيش السيارات المارة بحثاً عن مستوطنين يهود، وقاموا بإعدام اثنين منهم، فيما كانوا يجمعون التبرعات من المواطنين العرب، ويقولون لهم نحن رجال القسام.
تبعت الحادثة مواجهات في مدينة يافا بين العرب واليهود، فبجوار يافا كانت تل أبيب معقل اليهود يومها (وهي لليوم كذلك فنصف الصهاينة اليوم يعيشون في منطقة تل أبيب الكبرى)، وشن اليهود هجمات انتقامية وقتلوا عدداً من أهل يافا. تطورت المواجهات لتعلن القيادة السياسية العربية في فلسطين العصيان المدني على الاحتلال البريطاني وإضرابا شاملاً استمر ستة شهور، وكان مطلبهم الأساسي وقف المشروع الاستيطاني الصهيوني ، كما تشكلت اللجنة العربية العليا ممثلة للأحزاب السياسية التي كانت موجودة وقتها، وبدأت أعمال المقاومة المسلحة بالتزايد وخصوصاً عمليات القنص التي تستهدف مقرات الاحتلال البريطاني.
وقدم المتطوعون العرب للمساعدة في تدريب المجاهدين والثوار، وكان على رأسهم فوزي القاوقجي وهو ضابط سابق في الجيش العثماني، وطلبت بريطانيا من زعماء الدول العربية التوسط لدى اللجنة العربية العليا لإيقاف الإضراب ، وبالفعل أوقف الإضراب في شهر تشرين أول (10) من نفس العام على أساس وعود بإيجاد حل سياسي يرضي الشعب العربي في فلسطين (قلنا سابقاً أن التسميات القطرية فلسطيني ومصري وأردني لم تكن قد ظهرت في تلك الفترة التاريخية)، وحلت أغلب المجموعات المسلحة وانسحب المتطوعون العرب.
بدأ الاحتلال البريطاني بالمراوغة واللف والدوران، واقترحت لجنة بيل الملكية تقسيم فلسطين بحيث يأخذ الصهاينة منطقة الجليل والساحل من الحدود اللبنانية شمالاً حتى يافا جنوباً، طبعاً الاقتراح رفض عربياً وصهيونياً، وبقيت الأمور عالقة، والغليان يزداد والمواجهات مع اليهود ترتفع وتيرتها.
ثورة عام 1936م – المرحلة الثانية
ومثلما كان الشيخ فرحان السعدي الشرارة للمرحلة الأولى للثورة، كان أيضاً الشرارة للمرحلة الثانية من الثورة ففي شهر أيلول 9 من عام 1937م قام بقتل حاكم منطقة الجليل وهو ضابط بريطاني يدعى أندروز أثناء ذهابه للصلاة في كنيسة بمدينة الناصرة، أعلن الاحتلال البريطاني بعدها حالة الطوارئ، واعتقل قسماً من القيادة السياسية وهرب قسماً آخر إلى خارج فلسطين واستنفر المجاهدون وبدأت عملياتهم بالتصاعد.
تمركز الثوار في الجبال والأرياف على شكل مجموعات مكونة من 50 إلى 70 رجلاً (وكانت كل مجموعة تسمى بالفصيل، وهي التسمية المستخدمة في الجيوش للتشكيلات العسكرية من نفس العدد - وهنا نلمس تأثير تلك المرحلة على العمل النضالي الفلسطيني حتى يومنا هذا، فمسمى الفصائل الفلسطينية يستخدم اليوم للإشارة إلى التنظيمات الفلسطينية، كما أن أي تنظيم يفتقر لجناح عسكري وتاريخ في العمل المسلح ينظر له بدونية واستخفاف، وهي إحدى الثوابت التي رسختها الثورة الكبرى). ومن الملاحظ العلاقة الفضفاضة التي ربطت فصائل الثوار، بالرغم من تشكيل اللجنة المركزية للجهاد ومقرها دمشق لإدارة وتوجيه الفصائل، وبإشراف الحاج أمين الحسيني، فيما كان عزت دروزة يدير أمور اللجنة ميدانياً.
طارد البريطانيون الشيخ فرحان السعدي وتمكنوا من نصب كمين له وإلقاء القبض عليه مع ثلاثة من رفاقه، وقدم لمحاكمة سريعة حكم عليه فيها بالإعدام وفي 27/11/1937 نفذ حكم الإعدام فيه شنقاً وعمره 80 عاماً. لقي الشيخ فرحان السعدي ربه صائماً في شهر رمضان المبارك، مجاهداً شهيداً، نسأل الله أن يتقبل منه وأن يسكنه في عليين. وكان لإعدامه في هذا السن والوقت أثراً بالغاً أجج الثورة، كما شكل غياب القيادة السياسية الموزعة بين المعتقلات والمنافي دافعاً آخر، نظراً لدورها في تهدئة الناس نظراً لميلها إلى محاولة التفاهم مع الاحتلال البريطاني.
بلغت الثورة الكبرى ذروتها في صيف عام 1938م وانهارت الإدارات الحكومية وفقد البريطانيون السيطرة على الأرياف وبعض المدن، واضطرت بريطانيا العظمى لتجنيد الاحتياط واستدعاء فرقتين من قواتها المتمركزة في الهند للمساهمة بقمع الثورة، وقامت بتسليح ستة آلاف مقاتل يهودي واستخدمتهم في عملياتها الهجومية، وبدأت منذ أواخر عام 1938م بـ"إعادة احتلال فلسطين" كما وصف الموقف المؤرخ عبد الوهاب الكيالي.
استخدمت بريطانيا الوحشية المفرطة في قمع الثورة لتتمكن من إعادة السيطرة على البلاد أواسط عام 1939م، وقامت بتصفية واعتقال أغلب قادة الثوار، لتنتهي بذلك الثورة الكبرى عملياً.
أسباب فشل الثورة
فشلت الثورة الكبرى لعدة أسباب أهمها الفارق الكبير في ميزان القوى حيث كانت الأمبرطورية البريطانية قوة عظمى في ذلك الوقت تملك قوة جوية ضاربة، واستدعت فرق إضافية وجندت المستوطنين اليهود، وفي المقابل كانت إمكانيات الثوار المادية والتسليحية والعددية متواضعة.
وإن كان استمرار الثورة ممكناً رغم اختلال ميزان القوى، إلا أن ذلك كان مشروطاً بالقدرة على إعادة تعويض الخسائر التي تلحق بالثوار، فكان افتقارهم لقيادة قادرة على إعادة إنتاج نفسها، من خلال استقطاب عناصر جديدة لتعويض النقص البشري، بالإضافة إلى انفصال الأحزاب السياسية عن الثوار سبباً قاد إلى تلاشي الثورة ونهايتها بمجرد اعتقال قادة الثورة وتصفيتهم.
كما لعبت أخطاء الثوار دوراً في فشل الثورة، وخاصة كثرة الاغتيالات السياسية بحق الشخصيات السياسية العربية المتواطئة مع بريطانيا وغيرهم ممن اعتبروا خونة ومتواطئين والتوسع في اتهام الناس بالخيانة ولأمور لا تستحق مثل العمل في الإدارات الحكومية، فأورثت هذه الاغتيالات أحقاداً لدى أقارب من قتلوا على يد الثوار، ودخل الثوار في دوامة ثأر وثأر مضاد مع أهل من اغتيلوا مما أنهك قوتهم وشتت جهودهم.
ما بين الانتفاضتين وثورة عام 1936
عندما يقارن المرء بين الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى من جهة والثورة الكبرى من جهة ثانية فإن عدة أسئلة تدور في خلده أهمها: ما هي أوجه الشبه والاختلاف بينهما؟ وهل تنتهي الأمور بنا كما انتهت بعد الثورة الكبرى – أي العودة لنقطة الصفر؟
تماثل الانتفاضة الأولى المرحلة الأولى للثورة الكبرى من ناحية الطابع المقاومة الشعبية والنضال السياسي والعصيان المدني، فيما تشبه الفترة بين مرحلتي الثورة الكبرى الفترة بين توقيع اتفاقية أوسلو واندلاع انتفاضة الأقصى، حيث برزت ظاهرة البحث العبثي عن حلول تفاوضية تحفظ الحق الفلسطيني، وتشبه المرحلة الثانية من الثورة انتفاضة الأقصى باعتمادها على المقاومة المسلحة وتحقيقها نجاحات ميدانية (مع وجود تفاوت بين التجربتين). فهل يعني هذا أن نهاية انتفاضة الأقصى ستكون كنهاية الثورة الكبرى؟
هناك اختلاف جوهري بين انتفاضة الأقصى والثورة الكبرى، وهو ارتباط العمل المقاوم المسلح اليوم بتنظيمات سياسية قادرة على إعادة إنتاج نفسها وليس مجرد مجموعات من الثوار والمجاهدين، وفيما تمكنت المقاومة في غزة من حماية ذاتها من الفناء، فإنها تلقت ضربات قاصمة في الضفة الغربية لكن بذور استمراريتها تبقى موجودة وكامنة.
ولكي لا نعيد مأساة الثورة الكبرى، يجب أن نحافظ على غزة كقاعدة عسكرية تصلح مستقبلاً للبناء عليها، لا نريد استنزاف كل قوتنا لتذهب أدراج الرياح ونعود إلى نقطة البداية كما حصل في الثورة الكبرى، كما يجب أن لا تسمح المقاومة لمن يريد جرها إلى حروب وصراعات أهلية كما حصل مع الثوار في أواخر الثلاثينات، فمثل حسم غزة كان استثناءً ويجب أن يبقى استثناء، حتى تحافظ المقاومة على ما لديها لمواجهة العدو الحقيقي.