.

عرض مقابلة :لقاء مع الشاعر المقاوم ... يوسف الخطيب

  الصفحة الرئيسية » ركن المقابلات

لقاء مع الشاعر المقاوم ... يوسف الخطيب


يعتبر الشاعر المبدع يوسف الخطيب أحد كبار الشعراء الفلسطينيين الذين أثروا الشعر العربي بأشعارهم وأعمالهم. وهو من مواليد فلسطين عام 1930 عمل لمدة طويلة في عدد من الإذاعات العربية ثم عين مديراً لهيئة الإذاعة والتلفزيون في سوريا، أنشأ دار فلسطين.. انتخب عضواً في المجلس التشريعي الفلسطيني منذ عام 1968، صدر له عدد من المجموعات الشعرية ومجلد ديوان الوطن المحتل فضلاً عن مجموعة قصصية ..


التقيناه في موقع فلسطين للثقافة في دمشق وحاورناه حول بداياته وحول تجربته الشعرية. وتطرق الحديث إلى اثر النكبة ومعايشتها في شعره والى ديوان " عائدون " الذي أصدره عام 1959 .


**: بداية، هل يمكن العودة إلى البدايات.. كيف كانت؟. وما هي المؤثرات التي لعبت دوراً في توجهك إلى الشعر تحديداً؟


لا أظن أن في ذكريات طفولتي الأولى ما يختلف كثيراً، أو حتى قليلاً، عما تختزنه ذواكر جيل فلسطيني بأكمله من مواليد مطلع الثلاثينيات من القرن المنصرم.. فعلى اعتبار أنني شهدت نور الحياة لأول مرة في سنة 1931، في بلدتنا الجبلية الرائعة "دورا الخليل"، فمعنى ذلك هو أن الإرادة الإلهية قد ضربت لي موعداً مسبقاً مع أحداث الإضراب الفلسطيني الكبير عام 1936، إذ أنا ما أزال في سن الخامسة بعد، ثم مع أتون الثورة الفلسطينية الكبرى في السنة التالية لها مباشرة، ثم مع جائحة الحرب الكونية الثانية بعد ما لا يزيد عن سنتين..


فهذه إذن، وبصورة إجمالية سريعة، هي المرافقات الرئيسية التي اكتنفت طفولتي في ذلك الزمان من جانب الشأن الوطني العام..


بينما على المستوى الخاص، نشأت في أسرة فلسطينية متوسطة الحال كغيري من ألوف الأطفال الآخرين، وإنما الذي حدث فعلاً، ولسببٍ لا أدريه، هو أنني كنت أختلف عن جميع من أجيالهم من أتراب الطفولة أولئك بدرجة انفعال حادة، وحساسية مفرطة عالية، إزاء ما كان يتعاقب علينا يومياً من أحداث الثورة، ووقائع الحرب، وسائر مفردات الشأن العام.. ولعلي من داخل ذلك الواقع المتجهم والقابض للنفس اهتديت إلى أول الطريق للشعر، بوصفه توقاً إنسانياً فطرياً للخلاص، ونزوعاً، أو حتى هروباً أيضاً، للأجمل والأكمل والأمثل..


وإذا كان هنالك من مؤثر خارجي آخر مَهَّد لي طريق الطفولة لاقتراف الشعر في وقت لاحق، فهو دون ريب تلك القطعة من الجمال والروعة التي هي على سطح كوكبنا باسم "فلسطين"، والتي كان من أول ما وعيته في سن الطفولة الباكرة تلك هو أن هنالك أفواجاً متدافعة من اللصوص الأجانب وأشباه الشياطين يعملون على انتزاعها من بين يديّ.. فلم أجد ما أدافع به عنها غير معصية الشعر!!..


 


**  متى كانت ولادة أول قصيدة.. ومتى تم نشر القصيدة الأولى.. وماذا كان موضوعها، وماذا كان موضوع قصائدك الأولى بشكل عام؟


أتذكر الآن جيداً، أنني كنت في سنوات الطفولة الأولى أقول لنفسي أو أُنشد، أو حتى أغني، كلاماً كالشعر، وليس بالشعر من أي سبيل، وإنما الذي دفعني إلى ذلك هو إدراكي بأن هذا النوع من الكلام المنغم الجميل أشد حلاوةً وطلاوةً من أي كلام عادي يقوله عموم الناس ويرسلونه هكذا عفو الخاطر وبدون اكتراث..


ولعل أول اهتمامٍ لي بهذا النوع من "الكلام المختلف".. الشعر.. قد ابتدأ في حضن جدتي المعمرة "غزلان" إذ هي على مشارف المئة من العمر، وهاهي ذي تضم كتلتي الصغيرة إلى جسدها الناحل العجوز، وتشرع في إنشاد العديد من قصائد أخيها الشاعر الشعبي ربما الأشهر والأكبر في زمانها.. محمد كاشور.. يلي ذلك اختلافي بين الحين والآخر على ديوانية الرجال الكبار، مع غير قليل من أترابي الصغار، لنستمع بمتعة لا تدانيها متعة إلى شاعر الربابة الوافد علينا في جبل الخليل من بادية النقب، وهو يسرد علينا حلقة جديدة، شيقة ومثيرة، من "مسلسل" عنترة العبسي، أو أبي زيد الهلالي، بتوأمة فريدة من نوعها ما بين السرد النثري، والإنشاد الشعري، بكل ما من شأنه تجنيح خيالاتنا الطفولية في أجواء أسطورية ملهمة..


على أن العامل الآخر الذي كان أشد حسماً، وأعمق تأثيراً، في انجذابي إلى مثل هذا "الكلام المختلف"، على أمل أن أقول شيئاً مثله في مقبل الأيام، كان ذلك الجهاز الإفرنجي الذي اعتقدت جدتي أنه مسكون في داخله بالعفاريت، بينما يسميه من هم أصغر سناً "صندوق العَجَب"، وهو في حقيقة الأمر "الفونوغراف" على أيام تشغيله بطريقة الشحن اليدوي، فها أنت ذا باستطاعتك أن تستمع إلى مطرب الملوك وملك المطربين محمد عبد الوهاب، وإلى كوكب الشرق الدُّرِّي أم كلثوم، وغيرهما وغيرهما، وهم يصدحون لك في بعضٍ من اسطواناتهم بتلك المختارات المتميزة من عيون الشعر حتى مطلع الفجر.. فيا له من كلام يتجاوز حد وصفه بالروعة والمتعة والسريان في عروقك كنوع من مزيج الخمر بالسحر.. ومع أن وعيك الطفولي حتى في أفضل حالاته لا يستطيع أن يحيط إلا بأقل القليل من تفاصيل هذا الكلام وأسراره ومراميه، إلا أنه في كل الأحوال يُقلع بك إلى عالمٍ آخر غير عالمك الذي أنت فيه..


وأما عن أول قصيدة كتبتها، فإن كونك في نهاية الصف السادس الابتدائي لا بد أن يعني قطعاً أنك في حدود الثانية عشرة من العمر.. ولكنت شديد الحسرة حقاً حين تُطِلُّ ذات صباح حزين من شباك غرفتك في شارع "باب الزاوية" بالخليل، فلا ترى ابنة جيرانكم "جميلة" التي كنت تراها يومياً في شرفة منزلها المقابل، بُرعماً متفتحاً من الجمال الملائكي الأخاذ في قرابة عمرك، بل وتعلم أيضاً أنك لن تراها مرة أخرى أبد الدهر لأن عمل والدها انتقل بها وبكامل أسرتها إلى مدينة اللد.. فإن عينك عند ذاك ستنقف قطرة دمع لاذعة كالحنظل، وستقول ثلاثة أبيات من الشعر تكاد لا تُصدِّق، حتى يوم الناس هذا، أنك أنت الذي قلتها في سن التلمذة الابتدائية تلك..


ذهبت جميلة فالفؤاد كليمُ      


وتَرَحَّلتْ عني، فَبِتُّ أَهيمُ


واللهِ، والبيتِ الحرامِ، ومَنْ


في بطنِ يثربَ بالحجاز نَؤُومُ


ما كان يومٌ مثلَ يوم فراقها


شؤماً، لعمريَ، والفراق مَشُومُ


** كيف عايشت صدمة النكبة؟ وكيف انعكست على شعرك؟


دعنا نتفق أولاً على أنني لم أعايش صدمة النكبة كمؤثر خارجيٍ منفصل عن الذات، بل عشتها بكل جوارحي، من داخل النفس وحتى أعماق القلب، وما زلت أتجرع كأسها المرة حتى يومنا الراهن هذا على مشارف الثمانين من العمر، وإنما بذلك القدر من الصبر "الأيوبي" المعاند الذي لم يعد يملأ سنواتي العديدة هذه إلا مزيداً من الصمود والإصرار وقوة المجالدة..


ثم دعنا نتفق، ثانياً، حول أية "نكبة" نتحدث؟!.. فإذا كانت نكبة عام 1948 هي المقصودة في السؤال، فلا شك أن هذه - (عندي على الأقل)- هي الحلقة الصغرى إطلاقاً ضمن سلسلة بأكملها من النكبات المتفاقمة، أو المتوالية هندسياً، التي أعقبتها على امتداد العقود الستة اللاحقة عليها..


خذ مثلاً ما حدث في صبيحة الخامس من حزيران من عام 1967.. فعلى الرغم من أنه يمثل أكبر هزيمة "عسكرية" كارثية مرت بمجمل تاريخنا العربي المديد، فإن أشهر فقهاء السلطان العربي في زماننا، من حيث أراد أن يخفف من وقعها الجهنمي على معنويات الملايين، فلقد ابتدع لها تسمية "النكسة" عوضاً عن "الكارثة العظمى"، وربما لو أسعفته قريحته السلطانية بما هو ألطف من ذلك لكان قد وصفها "بالنكيسة" بصيغة التصغير.. أو حتى "بالنكيكوسة" بتصغير التصغير!!..


زد على ذلك ما شئت من الكوارث والنكبات الفاجعة التي تتعدى كثيراً مسألة احتلال هذا الجزء أو ذاك من جغرافية الوطن إلى مستوى احتلال النفس العربية من داخلها بالكثير من الإحباطات والانكسارات، وتجريد إنساننا العربي المعاصر، ليس من سلاحه المادي الآن، بل ومن ثوابته الوطنية وأقدس مقدساته المعنوية، وكرامته الإنسانية.. فعلى السطح فقط يمكن أن يتجسد "مفهوم النكبة" للكثيرين بمقدار ما قد ابتلعته هذه الدويلة اليهودية من أرض الوطن، بينما يبدو لي شخصياً، وفي العمق الأخلاقي لهذا المفهوم، أن انتظار طفل فلسطيني مريض قرابة سنة على "معبر رفح" من دون أن تأذن له "قاهرة المعز لدين الله!!" بالوصول إلى أقرب مستشفى بالعريش مثلاً، لئلا تنزعج تل أبيب من جراء ذلك، إنما يمثل في حد ذاته "نكبة أخلاقية" كاملة، وقائمة بذاتها، وليس من العدل أو الشرف أن نضعها في منزلة أقل مما حدث في نكبة عام 1948!!.. وأما عن الكيفية التي انعكست بها جملة هذه الصدمات على قصائدي، فلا شك أن قصائدي ذاتها هي المنوط بها وحدها أن تجيبك على مثل هذا السؤال..


**  عشت في بلدان عربية عديدة.. كما تغربت في هولندا.. والسؤال : كيف انعكست غربتك تلك على قصائدك إن في المضمون أو في الشكل؟


نعم، تنقلت طيلة عقد الخمسينيات، وجزء من عقد الستينيات من القرن الماضي عبر ستة أقطارٍ من مشرقنا العربي خارج فلسطين، هي الأردن، فسوريا، فما يعرف بالسعودية، فمصر، فالكويت، فلبنان، وكان ذلك من أجل تحصيل العلم، أو طلب العمل، إلى أن جاء يوم أصبحت فيه ممنوعاً من حق الإقامة، أو مطلوباً للمحاكمة العرفية في جميع هذه الأقطار، فما كان إلا أن قرأت ذات يوم ذلك الإعلان الصغير اللاطيء في أسفل الصفحة في جريدة لبنانية، عن حاجة القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية إلى مذيع عربي متمكن، فأحسست على الفور كأن هذا الإعلان لم يكن إلا بطاقة دعوة تخصني شخصياً.. وهكذا لم تمض إلا أسابيع قليلة حتى كنت قد التحقت بعملي الجديد هذا على تخوم القطب المتجمد الشمالي.. وحقيقة الأمر أنني خلال هذه الغربة القسرية العجيبة التي تختلف تماماً عن أية غربة عادية أخرى توخيت أن أقول شعراً يختلف بدوره عن أي شعر عادي آخر مما كنت قد خلفته وراء ظهري من سجالات أدبية شبه صبيانية حول التقليد والتجديد.. أو ما يدعى اعتباطاً بالقصيدة "العمودية" في مقابل ما يدعى زوراً وبهتاناً أيضاً "بالقصيدة الحرة" مرتقياً هكذا من قعر الأراضي الهولندية الواطئة إلى أعالي ينابيع الشعر العربي الأصيل عن طريق استحداث "فن التدوير" في بُنية القصيدة العربية المعاصرة، مما لم يسبق لشاعر عربي آخر أن استحدث مثله في مطلق تاريخ شعرنا العربي.. وللأسف الشديد لن أستطيع في مثل هذه المقابلة الصحفية، السريعة بطبيعتها، أن أدخل في تفاصيل مثل هذا الإنجاز الذي يحتاج إشباعه إلى قرابة "رسالة" مطولة قائمة بذاتها.. على أن أي ناقد أدبي ذي صلة مكينة بعبقرية اللغة العربية، وأسرارها "العروضية" الفريدة من نوعها، وإنجاز عملاقنا العماني الخلاق الخليل بن أحمد الفراهيدي في هذا المجال، يمكنه أن يلاحظ بسهولة بالغة ما كانت عليه قصيدتنا العربية المعاصرة قبل أن أضع قصيدتي الملحمية المرسلة المستدير بعنوان "دمشق والزمن الرديء"، عام 1961، ثم ما أصبحت عليه قصائد أغلب الشعراء العرب المعاصرين بعد ذلك التاريخ، إذ لعل في ذلك ما يغني عن كثير من التفصيل في "فن التدوير".


 


** توقفت فترة طويلة عن نشر مجموعاتك الشعرية (منذ عام 1964 إلى عام 1988). لماذا؟


ولكن، لمن أنشر؟.. ولماذا أنشر؟!.. لقد قضيت حتى الآن نيفاً وستين سنة من العمر كدحتها في فلاحة حقل الشعر.. ولقد أنجزت عدداً من الأعمال الشعرية التي كلما استعرضتها كاد أن يريبني الظن في أنني فعلت ذلك كله.. ومع ذلك فإنني أتحدى - ( وأرجو أن تعتبر هذا التحدي بمنزلة الإعلان المفتوح لكل الناس) – أن يوجد عبر هذه القارة العربية العملاقة صاحب مكتبة عراقية واحدة.. أو صاحب مكتبة أردنية أو حجازية أو نجدية واحدة.. أو صاحب مكتبة يمنية أو خليجية واحدة.. أو صاحب مكتبة مصرية أو سودانية أو مغاربية واحدة.. قد عرض لي ديوان شعر واحداً على امتداد هذه السنوات الستين!!.. فلمن أنشر؟.. ولماذا أنشر؟!.. ما دامت قصائدي مدموغة بخاتم الرقيب الأحمر من المحيط إلى الخليج.. اللهم باستثناء هذا الحي الشامي من قريش، في كل من دمشق وبيروت!!.. وللعجب العجاب حقاً فإن عديدين جداً من شعراء ما يدعونه الحداثة، أو قصيدة النثر "المبندقة" هذه، ما يزالون يجأرون بملء أفواههم بأنهم محاصرون تماماً من قبل الرقابة السلطانية المعادية لقرائحهم وإبداعاتهم الشعرية الجهنمية، ومع ذلك تجد دواوينهم وسائر كتاباتهم وتنظيراتهم السقيمة والعقيمة منتشرة كبثور الجدري على كامل السطح من حياتنا الثقافية المعاصرة، لأنهم أدركوا جيداً شرط اللعبة الأساسي وهو أن يتركوا ما لقيصر لقيصر، من قهرٍ وطغيانٍ وفسادٍ وتحكّمٍ أعمى برقاب العباد، ثم أن يلعبوا بعد ذلك كما يشاؤون بالشعر والنثر والفكر، وإنما في أبعد موقع يستطيعونه عن أسلاك قيصر الشائكة المكهربة، فيكتسبون بذلك الحسنيين معاً: حسنى مقاطعة السلطان من حيث المظهر الشكلي الخادع، وحسنى الترفُّع (بابتذال وصفاقة) عن جميع مفردات الشأن الوطني والقومي، وحتى الإنساني أيضاً، بدعوى أن ذلك نوع من الهبوط المريع بالإبداع إلى درك السياسة السفلي..


أما وأنني على العكس من كل ذلك تماماً، لم أعترف في أي يوم من الأيام للأخ العزيز الراحل ياسر عرفات، أو لهذا الآخر الذي جاء في العتمة من بعده، بأن له وحده الحق في تصريف شؤون الرعية، وتوجيه دفة القضية الفلسطينية وفقاً لأهوائه الذاتية، في حين ينبغي عليَّ، كشاعر، أن أختص بمفردات "المسألة الشعرية" لا أتعدَّاها إلى غيرها، على مبدأ - رحم الله امرءً عرف حده، فوقف عنده"- أو كما قلت مرة في إحدى الرباعيات...


كلما غَمَّستُ شعري بعذابات بلادي


قال لي "مهيارُ" في صيغة ظرفٍ وكِياسهْ


تلك "إشكاليةٌ" أوليتُها جُلَّ اجتهادي


هو عيبُ الشعرِ أن يَهتِكَ "حُرماتِ السياسهْ"!!..


فهكذا إذن، وما دام هنالك بعض الرقعاء من "شعراء حزيران" من يترجمون إرادة السلطان العربي بأن على الشاعر الحق أن يهتم بشأنه الشعري وحسب، وأن يبتعد إلى أقصى ما يستطيع، أولاً، عن أي اكتراثٍ "بسفاسف الشأن العام"، وثانياً، عن أية مقاربة "للتاريخ" بجملته وتفاصيله، أو كما قال قائلهم ذات مرة يهجو هذه المؤسسة المعرفية الهائلة والشاملة مُرَّ الهجاء..


"وأرى (التاريخ) شيخاً


" يلعب النرد، ويمتص النجوم (!!)..


أعود فأقول، ما دام هنالك من يبتذل القيمة الشعرية العليا إلى مثل هذا الدرك الأسفل من ممالأة السلطان، فإن على الشاعر الأصيل حقاً أن "يغترب" نهائياً عن أمثال هؤلاء، بقدر ما "يقترب" بالمقابل من جميع أسلاك قيصر الشائكة، المكهربة، الخطرة، مضحياً في الوقت نفسه بجميع بهارج الحضور في واجهات المكتبات، أو حتى دفعاً عن طيب خاطر لضريبة العصيان، أو كما قلت مرة في إحدى قصائدي..


" رَضيتُ جزاءَ عصياني


" وُيعرفُ من همُ الشعراءُ


" لا من خِلعةِ السلطانِ


" بل من فادحِ الثَمنِ!!..


**: كتبت الكثير عن العودة إلى فلسطين.. وأشرت في حديث سابق إلى أن العودة اليوم أقرب ما تكون إلى التحقق. كيف توضح ذلك؟


أظن أن سؤال "العودة" هذا لا يمكن احتواء الإجابة عليه ضمن مقابلة صحفية عامة، ومتعددة الجوانب كهذه التي تجريها معي الآن، لأنه، وبمفرده أيضاً، يصح أن يكون محوراً لأكثر من ندوة أو ملتقى فكري خاص، ومع ذلك فإنني سأحاول الولوج فيه ولو بالحد الأدنى من الإشباع لبعض جوانبه الهامة، لأنه لن يكون هناك متسع للتعمق فيه أكثر مما يسمح به السياق..


فأولاً، لست أنا الوحيد الذي كتب الكثير عن "العودة" في وقت مبكر، لأن شعبنا الفلسطيني بأسره هو الذي اعتمد هذا الشعار، بمرتبة الإيمان المطلق به، منذ لحظات اللجوء الأولى في سنة 1948، لأنك لو سألت أي لاجئ فلسطيني في تلك السنة: "ولماذا تحمل مفتاح بيتك معك"؟.. لأجابك على الفور وبمنتهى البداهة: "لأننا عائدون"!!.. ولست أبالي كثيراً، على المستوى الشخصي، إن كنت أنا، أو كان غيري، أول من شق صمت الفجيعة -(إعلامياً، وثقافياً، وشعراً، ونثراً)- بصرخة "عائدون" هذه منذ مطلع عقد الخمسينيات من القرن الماضي، ولكن ما أتذكره جيداً هو أن أكثر من شاعرٍ واحد من أتراب ذلك الزمان، كهارون هاشم رشيد، وخليل زقطان، وخالد نصرة، قد ارتفعت أصواتهم بهذا الشعار الوطني بشبه إجماع عفوي، عندما كنت في الوقت نفسه أتناوب العمل ما بين الإذاعة السورية في دمشق، وإذاعتنا الفلسطينية على العهد الأردني في رام الله، وكان برنامجي الإذاعي الأسبوعي المتميز الذي أتنقل به من هنا إلى هناك هو "عائدون" بشارته الموسيقية الشهيرة من افتتاحية "الشاعر والفلاح" للموسيقار النمساوي "سوبيه".. ثم لم ألبث في خاتمة ذلك العقد – أي في سنة 1959- أن أصدرت ديواني الشعري الثاني عن "دار الآداب" في بيروت حاملاً أيضاً عنوان "عائدون"..


على أنني، ومنذ ذلك الزمن السحيق نسبياً، لم أضع نقطةً في آخر السطر بعد أن رفعت مع غيري شعار "عائدون"، لأن قضية العودة في إيماني الراسخ العميق ليست مجرد جمالية شعرية عذبة يتغناها الشعراء في لحظات تحليقاتهم في سماوات الخيال البعيدة، بل هي أقرب إلى "الفكر" ألف مرة أكثر من "الشعر".. ومعنى أن "نعود" يوماً إلى فلسطين، هو أن تعود فلسطين إلينا بادئ ذي بدء، لأننا هنا تحديداً، وأكثر من أية معضلة سياسية أخرى، لا نستطيع أن نضع العَرَبة أمام الحصان!!.. بمعنى أننا لن نستطيع أن نعود إلى وطن ليس هو عائداً إلينا من أيدي مغتصبيه؟!..


صحيح جداً أن القرار الدولي (194) يحتفظ لنا بكامل الحق في العودة إلى ديارنا وأملاكنا في فلسطين، ولكن التناقض التاريخي الساخر على أَشُدِّه يكمن في أن هذا القرار هو التوأم الثاني اللاحق للقرار ذي الرقم (181) الذي يقيم "دولة إسرائيل" من حيث المبدأ، ويضع في استطاعتها -بمعونة استعمارية جهنمية- إمكانية ابتلاع كامل التراب الفلسطيني على وجبتين.. وعلى حين اتخذ قرار التقسيم هذا موقعه من التنفيذ الفعلي والفوري في سنة النكبة، فإن قرار الاعتراف بحقنا في العودة سرعان ما اتخذ موقعه الآخر مابين غبار الرفوف البعيدة من أرشيف الأمم المتحدة منذ ستين سنة، ولا شك أن أكثر من ستين سنة أخرى ستنقضي عليه في مثل مرقده الأبدي ذاك، ما لم نقم نحن الفلسطينيين، بالدرجة الأولى، باستخراج جثته الهامدة من تابوتها الحقوقي الدولي، النظري، وإنعاشه، وتفعيله، وتسليحه أيضاً، إن لم يكن بالطائرات وجنازير الدبابات، فبإرادة شعبنا الفلسطيني الذي لم يُسعفني كل ما قرأته في تاريخنا البشري بمن يماثله بين شعوب الكون في طاقته الأسطورية على الصبر، والصمود، وامتصاص الصدمة في إثر الصدمة، والكارثة من بعد الكارثة..


ولكن، ولأننا شعب من الطينة الآدمية ذاتها، ولسنا من نار الجن، أو من نور الملائكة، فإن من طبيعة الأمور أن يظهر بيننا أحياناً بعض الأفراد، أو حتى الزمر الخارجة عن هذه الصبغة العامة الغالبة لشعبنا الفلسطيني.. فلقد رأينا من أمثال هؤلاء الخوارج من وقف في سنة 1988، وفي دورة مجلسنا الوطني الفلسطيني بالجزائر آنذاك من أجل أن يدس لنا سُمَّ الخيانة في دَسَمِ "إعلان الدولة الفلسطينية- المكذوبة بطبيعتها تلك"، فلم نر الدولة طبعاً، ولن نراها من خلال هذا الإعلان، ولكن بعض "قادتنا" المُتَلمِّظين على طعم السلطة الفارغة، كانوا قد دفعوا الثمن كاملاً، ومسبقاً، باعترافهم، أولاً، "بدولة إسرائيل"، وبتفجيرهم، ثانياً، لمنظمة التحرير من داخلها عن طريق إلغائهم لأهم بنود الميثاق الوطني الذي تستمد شرعيتها منه!!..


ومن أمثال هذا الشذوذ أو حتى السقوط الوطني أيضاً -(بصدد "حق العودة" على وجه التحديد)- ما بات يردده فخامة الرئيس المُرأَس على وهم السلطة في رام الله من "حرصه الشديد على التفاهم مع الجانب "الإسرائيلي" من أجل إيجادٍ حلٍ لمشكلة اللاجئين على ضوء القرار 194"!!.. فلو أن مسؤولاً صهيونياً من أقصى اليمين أراد أن يجهض هذا القرار، وأن يتحول به من مطلب حقوقي دولي واجب التطبيق، إلى مجرد "مشكلة خلافية حَمَّالةِ أَوْجُه" لما استطاع أن يجهضه بمثل هذه الصفاقة والرقاعة!!..


ولكن، وبرغم مثل هذه النشازات كلها، فإنه ما من أغلبية شعبية ساحقة ومقاربة لسقف "الإجماع" كأغلبية شعبنا الفلسطيني المتمسكة "بحق العودة" حتى بالنواجذ والأسنان، مع ما أراه شخصياً، وكثمرة فكرية سياسية لمعاناة ستين سنة بطولها من الوقوع تحت الاحتلال، أو التَشَظِّي والتمزق في الشتات، من أن مجرد التمسك بهذا "الحق" لم يعد كافياً في حد ذاته، لأن كل "حق" عرفه الإنسان لا بد من أن يكون هنالك "واجبٌ" يقابله، ويلتحم به، كوجهين لقطعة نقد واحدة.. وواجبنا الآن كي نعود مواطنين أسياداً أحراراً إلى "فلسطيننا"، نحن لا مجرد خدمٍ وعبيدٍ وعمالٍ إلى "إسرائيلهم هم"، هو أن نستعيد فلسطين ذاتها إلى وضعها الوطني والقومي الذي كانت قبل كل هذه الصبغة اليهودية الصهيونية الطارئة، وإلا فإن مجرد العود كمواطنين من الدرجة الثالثة، أو ربما العاشرة أيضاً، ليست إلا كمن يحرث البحر أو يقبض الريح.. ومعنى كل ذلك، أولاً وأخيراً، هو أن "حقنا" في العودة إلى فلسطين إنما يفضي مباشرة على "واجب" استعادتنا لها إلى وضعها الصحيح.. أي أن القاطرة الفلسطينية يستحيل عليها أن تتقدم خطوة واحدة إلا على هذين الخطين المتوازيين، المتلازمين معاً.. "حق العودة"..و"واجب الاستعادة"!!..


ولئن بدا ذلك طبقاً لمعطيات الأمر الواقع صعباً أو حتى خيالاً يقع في مرتبة المستحيل، فَمَردُّ ذلك مع الأسف العميق ليس إلى مجرد خذلان الرسمية العربية بوجه عام لكفاحنا الفلسطيني الدامي لقرابة قرنٍ بطوله من الزمان، بل وعلاوةً على ذلك إلى كون غير قليل من كياناتنا السياسية المرسومة بمساطر الأعداء، والمحددة بأقلامهم الحمراء، قد تمَّ إنشاؤها هكذا من أجل أن تظل مقترنة بالكيان الصهيوني المصطنع، اقتران، وجود وعدم.. ومن هنا تحديداً يتجلى حجم المعجزة التاريخية العظمى التي لا أشك لحظة واحدة في أن العناية الإلهية قد انتدبت شعبنا الفلسطيني لأجل تحقيقها، وحيداً، وحيداً، حتى تمام تحرير الوطن الأكبر، والأمة كلها.. من خلال تحرير فلسطين..


 


وأما عن الشق الثاني من سؤالك المتعلق بقناعتي الخاصة باقتراب يوم العودة الظافرة الكريمة، الآن، أكثر من أي وقت مضى، فمردُّ ذلك إلى أنني عشت أحداث سنة النكبة يوماً بيوم، وربما ساعة بساعة، ووقفت عن كثب لا على جرائم اليهود الصهيونيين وحسب، بل وعلى هزائمهم أيضاً وانهيارهم المعنوي المريع عند أول خلل أو ارتباك في أداء مشروعهم الصهيوني.. ففي سنة 1948 كان القلق المصيري اليهودي في فلسطين يطرح نفسه بالصيغة التالية: هل ستقوم دولة "إسرائيل" أم أنها لن تقوم؟؟.. وهانحن الآن، حتى بعد ستين سنة بتمامها من تحقق تلك الجريمة العظمى في مجمل تاريخنا البشري، وبرغم جميع حروب "إسرائيل" وانتصاراتها العسكرية المكذوبة أو حتى التمثيلية أحياناً، نرى أن ذلك السؤال المصيري الحاسم قد عاد يطرح نفسه، وإن بصيغة مختلفة قليلاً، وإنما بارتباك وقلق أشد، وهو: هل ستدوم هذه الدولة، أم أنها لن تدوم؟!.. وههنا تحديداً يكمن مقتل "إسرائيل" المحتوم في عدم ثقة أصحابها بإمكانية ديمومتها، بل وفي إدراكهم العميق الذي أعلنوه على الدنيا بأسرها أكثر من مرة، بأن نهاية دولتهم ستكون مقترنةً بأول هزيمة عسكرية حقيقية تحل بها.. فدولة هذا شأنها طيلة ستين سنة، قد أصبح الآن من الحتم زوالها، قد لا أقول غداً أو بعد غد، وإنما بقدر ما نساعدها، (نحن أبناء فلسطين بالدرجة الأولى) على ضمورها، وذبولها، واندثارها في أديم فلسطين، ككل من سبقها من فلول الفاتحين السابقين.. 


* ـ وكيف ترى موضوع العودة في الشعر الفلسطيني اليوم؟


بما أنه لا وجود عندي شيء يمكن أن يعرف "بالشعر الفلسطيني"، أي المستقل بذاته، والمختلف بخصائصه عن جملة الشعر العربي المعاصر، فلا شك أنك تعني في سؤالك "الشعراء الفلسطينيين" أنفسهم. وفي هذه الحالة ينبغي أن نقيم حداً فاصلاً وفارقاً ما بين نوعين من هؤلاء الشعراء.. النوع الأول الذي أدعوه عادة "بالأرثوذكسي" من فرط تمسكه بأصل القضية الفلسطينية و جذورها العميقة، مع عدم التنازل عن أيٍّ من ثوابتها المبدئية المقدسة، لا عن العودة، ولا عن كامل التحرير لكامل الوطن المحتل، ولا عن حتمية التحام فلسطين بجسد الوطن العربي الأكبر وفي منزلة القلب منه.. بينما النوع الثاني من هؤلاء الشعراء الفلسطينيين (بمجرد شهادة الميلاد لا أكثر)، أدعوهم عادةً "بالهيروديين" باستعارة هذا المصطلح من فيلسوف علم التاريخ المعاصر آرنولد توينبي، عندما لاحظ أنه في أعقاب كل هزيمة كبرى، على مَرِّ جميع الأزمان، وعند جميع الشعوب، فلا بد أن تنفرز على الفور فئة سريعة الانحلال من الطرف "المغلوب" تنظر إلى "الغالب" بقدر غير معقول من الانبهار إلى حد الانسحاق تحت قدميه، ومحاولة التشبه به والانتماء إليه.. وحقيقة الأمر أن عدداً لا بأس به من شعراء "راكاح" الفلسطينيين الذين ندعوهم عادة بشعراء الأرض المحتلة، -( وباستثناء بعض كبارهم كتوفيق زياد، وراشد حسين، وسالم جبران، وغيرهم)- إنما يمثلون هذه الفئة الثانية بصورة فجَّة صارخة، حيث لا وجود من حيث الأصل لموضوعة "العودة" لا في أشعارهم، ولا في أفكارهم، ولكنهم يتمسحون بأقدام "الغالب" كأن يضع أحدهم قرابة ديوان شعر بأكمله في مفاتن معشوقته اليهودية، مُتسللاً هكذا من باب العشق، إلى أسفل دراجات التطبيع!!.


وعلى أية حال، فإن قصيدة "العودة" العظمى، وأنشودتها الرائعة، لا يمكن اختزالها في قريحة هذا الشاعر أو ذاك، فلسطينياً كان أم غير فلسطيني، لأنها ما تزال، كما كانت عليه في يوم الرحيل نفسه، مكتوبة في أعماق القلوب، ومقروءةً في حدقات العيون..


** ـ والحديث عن الشعراء.. هناك ملاحظة وهي "تقوقع" العديد من هؤلاء الشعراء، حول ذاتهم، وهروبهم من الموضوع القومي، حتى أصبحنا نفتش عن كلمة فلسطين في أشعارهم فلا نجدها..  


يمكن القول إن الظاهرة الخطيرة التي يمكن أن تستوقف الناقد الأدبي، أو حتى القارئ العادي، الآن، لا تتعلق بمجرد مسألة "التقوقع" هذه، ولا تنحصر أيضاً ضمن دائرة الشعراء الفلسطينيين دون غيرهم من الشعراء العرب الآخرين، بل هي ظاهرة عامة وشاملة أشرت إليها في إحدى إجابتي السابقة بمصطلح "شعراء حزيران".. فعلى حين نرى أن احتلال فلسطين الجزئي الأول في عام 1948 قد استولد على الفور من وقوعه جيلاً بأكمله من الأدباء والشعراء الرافضين له، والغاضبين الحانقين على أسبابه ومُسبِّبه، والداعين جهاراً نهاراً إلى ضرورة (أو حتى حتمية) إزالة هذا الكيان الصهيوني اللعين.. فإننا على العكس من ذلك تماماً، وبافتراق مئةٍ وثمانين درجة دفعة واحدة، رأينا أن احتلال الجزء المتبقي من فلسطين، في شهر حزيران الأسود من عام 1967، قد استطاع أن يستولد، وفي ستة أيام لا أكثر، جيلاً آخر من أشباه الأدباء والشعراء وحتى المفكرين السياسيين، ممن أصيبوا لا بمجرد "الصدمة" كما يصطلح الكثيرون، بل بما يشبه "السكتة القلبية والعقلية معاً"، وهي التي فقدوا معها أية استجابة إنسانية مُتَّزنة ومتحضرة إزاء هول الكارثة، متغافلين، أو حتى غافلين أيضاً، عن أن مجمل التاريخ البشري ما هو في حقيقة الأمر إلا هذه السلسلة اللانهائية من "التحديات- challenges " في مقابل ما للإنسان حيالها من "استجابات- responses " متراوحة، قد تصدُّها بقوة غالبة، أو قد تتكافأ معها، أو -(كما هو مثالنا العربي الراهن مع الأسف العميق)- قد تقع أمامها مترنحة، وخائرة، وغائبة عن الوعي.. ولاشك أن هذا على وجه التحديد هو الذي حدث لتلك الطائفة من المشتغلين في حقل الشعر، وأحب عادة أن أدعوهم "شعراء حزيران"، لأنهم أخذوا يحسون بروحٍ مازوكيةٍ لعينة بمتعة الانسحاق والدونية أمام هذا "الفاتح اليهودي القاهر الغلاَّب!!"، بما يعني بالنتيجة (وفي قناعاتهم وحدهم بطبيعة الحال) أن السبب في تلك "الهزيمة العسكرية" المزرية حقاً، ليس مؤسسة السلطان، ولا وزارة الدفاع، ولا هيئة الأركان.. بل هو الأمة بقاطبتها، ومن أعمق جذورها، وبكامل منظومة القيم والمثل العليا التي يحفل بها تاريخها الطويل!!.. فمثل هذه الإحالة، أو "الحَوَل" إن صح التعبير، تظل أسهل ألف مرة على الشاعر الهروبي أو المتقوقع من هذا القبيل، من أن يشير ولو بالتلميح إلى المسؤول الحقيقي عن تدمير كامل سلاحه الجوي في نصف الساعة الأول من يوم العدوان.. لأن مثل هذا المسؤول قد أصبح في سدة الرئاسة الآن!!.. ولك أن تقول الشيء نفسه عن بعض شعرائنا الفلسطينيين الذين "ناسبوا الحكومة – بتعبير الممثلة شادية – في مسرحية رَيَّا وسكينة"، وأصبح لكل واحد منهم عشيقته اليهودية التي يتباهى بها على أقرانه، بقدر ما يتقرب من تحت قدميها إلى أعدائه الأقوياء، الأصحاء، الفاتحين.. وأصبح كل منهم يُغَنِّي على "ريتاه" حتى بمرافقة سحق جنازير الدبابات اليهودية لما تَبقَّى من أطلال مخيم جنين!!.. أليست تلك هي قمة الكارثة؟!.. ولكنني أقول لك بمطلق الصدق والنزاهة، دَعْكَ من كل هؤلاء وأمثالهم، فإنهم يَتَوهَّجون قليلاً، ثم سرعان ما ينطفئون..


**: وكيف تقيم النتاج الأدبي الفلسطيني بشكل عام، وهل ترى أنه خلق معادلاً فنياً للقضية الفلسطينية؟


يؤسفني حقاً أنني لن أتوغل كثيراً في الإجابة على هذا السؤال، من حيث تقييم النتاج الأدبي الفلسطيني ولو بشكلٍ عام، لأنني أعترف لك بأن مثل هذا التقييم، أو التقويم، لا خلاف، لن يكون واقعاً في استطاعتي- أو حتى في استطاعة كائنٍ من كانَ – إلا بنوع من الدراسة النقدية المتخصصة والمتأنية، ولست أظن أن أحداً حتى الآن قد أنجز مثل هذا العبء الثقيل..


وأما عن الشق الثاني من سؤالك حول ما إذا كان مجمل هذا النتاج قد خلق "معادلاً فنياً للقضية الفلسطينية" أي أنه يحمل من القيمة الفنية، والمستوى الإبداعي المتميز، ما يمكن أن يتكافأ مع هول الكارثة الفلسطينية باعتبارها أعظم "تراجيديا" مرت بذاكرة الإنسان عبر جميع الأزمان، فها هنا في اعتقادي بيت القصيد.. وعندما أنظر بعينٍ نافذة وعادلة، ليس إلى مجرد إبداعاتنا الفلسطينية وحسب، بل وإلى مجمل إبداعاتنا القومية العربية المعاصرة إزاء هذه التراجيديا، فإنني ألاحظ كم هو الفرق شاسع وعميق مابين (السبب والنتيجة- أو ما بين العلَّة والمعلول – cause and effect ) بلغة أهل المنطق.. أي ما بين المأساة الفلسطينية من جهة، ومعادلها الإبداعي من الجهة المقابلة.. فإنك لواجد في مثل هذه الموازنة ما يشبه أن يكون "نكبة" أخرى قائمة بذاتها ، حيث ترى العديدين جداً من ذوي القرائح الأدبية والشعرية والفنية الأخرى، ومن فلسطينيين وغير فلسطينيين، وهم يهبطون بمختلف مفردات القضية الفلسطينية إلى مستوى قاماتهم الإبداعية الصغيرة، أو حتى الهابطة، في حين كان ينبغي عليهم، هم، أن يصعدوا ما يشبه طريق آلام إلى ذراها السامقة، وآفاقها الفسيحة.. وأعترف لك أيضاً بأنني ما كتبت شيئاً بصدد هذا القضية في يومٍ من الأيام إلا وانتابني ما يشبه قشعريرة الرعب من ألا أكون قادراً على مثل هذا الصعود!!..  


** : تكتب الشعر الحديث، كما تكتب الشعر التقليدي .. كما تلجأ لاستخدام أساليب عديدة في القصيدة من الأسلوب السردي أو القصصي أحياناً، إلى أسلوب الحوار أحياناً أخرى، أو أسلوب الاستذكار (الفلاش باك). والسؤال ما الذي يحدد شكل القصيدة عندك، ولماذا تؤكد كثيراً على أسلوب الاستذكار؟؟  


هذا سؤال ذكيٌّ، وهامٌ، في نفس الوقت.. ذكيٌّ لأنه ينم عن ملاحظة نقدية دقيقة لوفرة التنويعات البنيوية والفنية التي اعتمدتها في مجمل عمارتي الشعرية، وإنما بروحٍ عامةٍ واحدة في مشهدها الإجمالي الفسيح.. وهو سؤال هامٌ أيضاً لأنه سيتيح لي فرصة التطرق إلى عيب الرتابة والإملال الذي يطبع الشطر الأوفر من نتاجنا الشعري المعاصر، فإنه لمن الرائع حقاً أن يسعى الشاعر العربي لأن تكون له "لغته الشعرية" الخاصة به، نسبياً، لدرجة أن القارئ اللماح سيدرك على الفور، ومن لغة القصيدة ذاتها، ومن بين مئة من الشعراء الآخرين، أنها لشاعرنا الراحل الكبير عبد الوهاب البياتي على سبيل المثال، أو لعزيزي أدونيس، أو غيره، أو غيرهما.. فهذا في الحقيقة إنجاز إبداعي رائع، ولكنه مع ذلك لا يمثل إلا نصف الحقيقة فقط، لأنك لو وضعت هذه القصيدة نفسها بين مئة قصيدة أخرى للشاعر نفسه، فإنها ستفقد "خصوصيتها" كعملٍ شعري قائم بذاته، وستبدو لك مجرد امتداد أفقيٍ مستوٍ لقصيدة مستمرة واحدة، من الغلاف إلى الغلاف.. فهذه في اعتقادي هي "الخصوصية العرجاء" التي تقيم وزناً كبيراً لاستقلال اللغة، ولكن على حساب استقلال العمل الشعري نفسه كقطعة فنية قائمة بذاتها.. وهذا أيضاً هو العيب الفني الصارخ الذي حاولت أن أتجنب الوقوع فيه على الدوام.. إذ لا أذكر مرةً واحدة عزمت فيها أن أضع قصيدة جديدة، إلا وسألت نفسي عن الحلة "الجديدة" التي سأبرزها فيها.. عن الشيء المختلف.. أو الخاص.. أو شبه المستقل الذي سيبرر لي مبدأ الظهور بها أمام هيئة الآخرين المتلقِّين..


لذلك، أيها الأخ العزيز، تجدني في إطار هذه "اللوحة الشعرية" التي تخصني، أعتمد جميع التلاويين والأساليب والاستطاعات العروضية المذهلة التي اكتشفتها، (بالاستهداء بخارطة الطريق التي رسمها لنا شيخنا الفراهيدي)، بسبيل أن أضع أخيراً، ليس القصيدة الدَّالةَ على قائلها وحسب.. بل والمُدِلَّة بذاتها في نفس الوقت..


**القارئ لقصائدك يلحظ الاعتناء الفائق بمفردات اللغة.. والمزاوجة بين التراث والمعاصرة فيها ببساطة. والسؤال، كيف تفهم هذه الثنائية؟


 


تعلم دون ريب أن "فن الشعر" يستحيل أن يشتمله تعريف واحد، جامعٌ مانعٌ في نفس الوقت، فهو إذنْ فوق مبدأ التعريف القطعي، وإنما يمكن التعرف عليه وتمييزه عن غيره من سائر الفنون الأخرى من خلال بعض الملامح أو الخصائص الجزئية التي يتَّصف بها دون سوا، كأن ترى ابن رشيق، مثلاً، وهو يستعير لك في صدر كتابه الشهير "العمدة"، مثال "الدُر" المستخرج من أصداف البحر، بين أن يكون "منثوراً" هكذا بدون أية عناية أو اكتراث، وبين أن يكون "منظوماً" في قلائد وحُلِيٍّ بجمالية عالية، فهذا هو الفرق عنده ما بين النثر، والشعر.. مع أن حبات الدر، كمفردات اللغة، هي ذاتها على الحالين، ولكن التدخل البشري بوسائل فنية محددة، هو الذي يقيم الفرق ما بين هذا وذاك..


أو خذ مثلاً ما يمكن أن تقدمه لك موسوعة "برنستون- Princeton " المتميزة للعلوم الشعرية، ليس من تعريف للشعر بطبيعة الحال، وإنما من توصيف خارجي له، بأنه تلك اللغة الرفيعة السامية التي يمكن التعبير بها عن معانٍ أو مشاعر أو تجارب ذات قيمة عالية..


فهكذا إذن، وفي كل الأحوال، يتوجب على الشاعر الحق، أن يخاطب هيئة الآخرين المتلقين بكلامٍ ليس كأي كلام، وبلغةٍ أخرى، أرفع وأسمى من أن تقع في مستوى الشيوع العمومي بين الناس.. ولهذا.. نعم أنا أعترف لك بصحة ما ورد في سؤالك حول عنايتي الشديدة بتجويد لغتي الشعرية إلى أبعد حدٍ أستطيعه، وإنما باجتناب التعقيد، وتحريم الاستعلاء على الآخرين كتحريم مالكٍ للخمر، حتى إذا ما سألني أحدهم يوماً: "لماذا لا تقول ما يُفْهم؟!" فلن أستعير على الإطلاق إجابة شيخنا أبي تمام للرد عليه: "ولماذا لا تفهم ما يقال؟!".. بل على العكس تماماً سأعود إلى لغتي الشعرية ذاتها، أزاوج فيها ما بين أعلى درجات التجويد والتهذيب، وأقصى ما أستطيعه من التسهيل والتقريب..


وأما عن تلك المزاوجة الأخرى ما بين التراث والمعاصرة كما وردت في سؤالك.. أو في حقيقة الأمر ما بين "الأصالة- والمعاصرة" كما هي مطروحة في ساحة النقد الأدبي، عندنا، كضِدَّين متنافرين متشاكسين في أغلب الأحيان، وأستدرك بالقول.. عند جُلِّ النقاد، لا كلهم.. فهي على العكس، عندي، ربما كانت أشد الثنائيات التي أدركها العقل البشري تلاحماً وترابطاً إلى قرابة التوحد المطلق فيما بينهما، بحيث لا أستطيع أن أتصور -(في تجربتي الشعرية على الأقل)- أن يكون هناك عمل أدبي "أصيل- Original " من دون أن يكون معاصراً، وحديثاً أيضاً، في نفس الوقت، وذلك بحسب الملكة الفكرية، أو الزاوية العقلية، التي ننظر من خلالها إلى مفهوم "الأصالة" من داخله، لا بوصفه مرادفاً "للأصولية" أو السلفية الماضوية كما يحب تلاميذ المدرسة الأدونيسية أن ينظروا إليه عبر العديد من فجاجاتهم النقدية الصحفية، وإنما بوصفه الحقيقي بمعنى "الأصل"، البكر، الذي لا نظير له من قبل.. والذي لا يُقَلِّد بل يُقَلَّد.. ولا يَتَّبِع بل يُتبَع.. وهذا في حقيقة الأمر هو المفهوم الصحيح الذي يعتمده الناقد الغربي، بل والعالمي أيضاً، عندما يختار مصطلح الأصالة هذا " Originality " للإشارة به إلى أي خلق أو إبداع أدبي أو فني يراه بمنزلة "الأصل" الفرد القائم بذاته!!.. فأنا هنا.. نعم أيضاً.. أعترف لك للمرة الثانية بأنني ضمن مشروعي الشعري المستقل هذا قد توخيت دوماً أن أزاوج ما بين المعاصر والأصالة.. أو بتعبير آخر. أن أحقق التحديث على قاعدةٍ مكينة من التأصيل..

 « رجوع   الزوار: 4609

تاريخ الاضافة: 25-05-2010

.

التعليقات : 0 تعليق

« إضافة مشاركة »

اسمك
ايميلك
تعليقك
6 + 4 = أدخل الناتج

.

جديد قسم ركن المقابلات

رحيل أم عزيز الديراوي.. رمز قضية اللاجئين الفلسطينيين المفقودين بلبنان

"المقروطة".. تراث فلسطيني أصيل

عندما اقتلعت العاصفة خيمة طرفة دخلول في ليلة عرسها ورحلة العذاب اثناء النكبة

أم صالح.. لبنانية تقود العمل النسوي في القدس منذ 70 عاما

الفنان التشكيلي محمد نوح ياسين يرسم عذابات اللاجئ الفلسطيني بخيط ومسمار

القائمة الرئيسية

التاريخ - الساعة

Analog flash clock widget

تسجيل الدخول

اسم المستخدم
كـــلمــة الــمــرور
تذكرني   
تسجيل
نسيت كلمة المرور ؟

القائمة البريدية

اشتراك

الغاء الاشتراك

عدد الزوار

انت الزائر :296657
[يتصفح الموقع حالياً [ 100
تفاصيل المتواجدون

فلسطيننا

رام الله

حطين

مدينة القدس ... مدينة السلام

فلسطين الوطن

تصميم حسام جمعة - 70789647 | سكربت المكتبة الإسلامية 5.2

 

جميع الحقوق محفوظة لرابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان ©2013