حلم العودة يراود الشيخ الستيني (أبو زياد)
رغم أنه تجاوز الستين عامًا فإن الأمل وحلم العودة ما زالا يراودان نفس اللاجئ سليمان أبو مصطفى، بعد أن طرد الاحتلال عشيرته وأهله من مدينة بئر السبع الفلسطينية عام 1984، فهو ما زال يشتمُّ في كوفية والده السمراء رائحة القهوة العربية وحناء التربة الفلسطينية السبعاوية.
رحلة للذكرى
كعادته ينطلق الحاج سليمان سلامة أبو مصطفى (أبو زياد) مصطحبًا زوجته الستينية وأولاده الخمسة إلى أرضه في خان يونس، جنوب قطاع غزة، وهو يحاول يوميًّا أن يعيش هذه اللحظات وكأنها أسعد لحظات في حياته، راسمًا بخياله الواسع بأنه يعود إلى أرضه هناك في بئر السبع.
مراسل "المركز الفلسطيني للإعلام" رافق الحاج أبو زياد وأولاده رحلتهم إلى أرضه، وفعلاً كانت الرحلة ممتعةً بقدر المشقة التي يلاقيها هذا الرجل الستيني وهو يلمُّ أولاده من حوله ويمازحهم ويضحكاهم، ويتناولون سويًّا كسرات من خبز القمح يغمسونها بالزعتر وزيت الزيتون ومعها حبات الزيتون والبندورة الحمراء الناصعة، فكل هذه النعمة الفخمة بالنسبة لهم كانت من إنتاج أيديهم، فكانت السعادة تغمرهم أكثر وأكثر حينما يتناولون كأسًا من الشاي؛ بعد أن غلوه على نار هادئة بحطب الزيتون والليمون.
حتمًا سنعود
بعد أن انتهى الحاج أبو زياد من إفطاره ارتكز إلى "قرمية زيتون" كما يحلو له أن يسميها -وهي الأصل من الشيء- يقول بلهجته البدوية: "كل يوم آتي هنا إلى أرضي أستذكر أرض أبويا وجدي في بئر السبع"، ووضع يده في عباءته التي تعبَّقت برائحة الحطب والنار، وقال: "شوف هذه كواشين الأرض التي بثبت ملكيتنا للأرض، إحنا إلنا دونمات كثيرة هناك في بئر السبع".
ويضيف اللاجئ الفلسطيني أنه يجمع أولاده بشكل شبه يومي؛ ليحدثهم عن شيء جديد في أرضهم وهو يحرص ويشدد عليهم ألا ينسوها وأن يتذكروها ويذكِّروا بها أولادهم مهما طال الزمان، فقسمات وجهه السمراء تنحني غضبًا وهو يقول لهم: "راح نرجع يعني راح نرجع.. اليهود ظُلام، والظلم إلى زوال".
دمعة الفراق
صمت الجميع بعد أن تواعدوا ألا ينسوا أرضهم هناك في بئر السبع، وبدمعة حزينة استذكر جواد (35 عامًا) الابن الأكبر -الآن- للحاج أبو زياد شقيقيه الشهيدين زياد وعمر، وهو يقول: "ربنا يرحمك يا زياد أنت وعمر"، وكان السؤال: "كيف استُشهدا؟"، فيتابع: "استُشهدا بصاروخ من طائرة استطلاع بين حي الأمل ومعسكر خان يونس، والحمد لله استشهادهما كان لنا رفعة وسمعة طيبة وحسنة بين الناس، ولكن حزني أنهما لن يشهدا يوم العودة إلى بئر السبع".
أما الحاجة أم زياد فقد ذكرت أن ابنيها الشهيدين كانا ضمن سبعة أبناء أنجبتهم، وربتهم جميعًا على حب الوطن والتضحية من أجله، فزياد وُلد في (22-5-1974م)، أما شقيقه عمر فأبصر الحياة بتاريخ (28-12-1986م)، ورغم فارق السن بينهما كانا الأكثر قربًا لبعضهما؛ لدرجة أن البعض كان يستغرب طبيعة العلاقة القوية بينهما.
وصمتت للحظات تسللت خلالها دموعها لتعكس حجم ألمها قبل أن تقول: "إحنا يا ابني تركنا ديارنا في "السبع"، وعشنا مرارة التشريد واللجوء، ونحن نحلم بالعودة، لذلك ربينا أولادنا على العمل بانتظار العودة إلى الديار".
تفاؤل كبير
كان إصرار أطفال عائلة أبو مصطفى، أحفاد الحاج أبو زياد، وآبائهم وزوجاتهم على العودة إلى مسقط رأس أجدادهم هناك في بئر السبع؛ يبعث على التفاؤل الحقيقي بأن هناك أجيالاً ما زالوا حالمين بالعودة.
فبكلمات أثبتت ذلك قال حفيد الحاج أبو زياد، مصطفى أبو مصطفى: "إحنا بنتوقع نرجع لبئر السبع في أي لحظة، وبنجهز حالنا لهذا اليوم"، ودعا الله أن يكون هذا قريبًا.
ليهدموا ما شاءوا
على بعد بضعة أمتار من الأرض، يشير الحاج أبو زياد إلى بيته الثاني الذي يقيم فيه صيفًا، ليؤكد لنا أن قوات الاحتلال الصهيونية دمَّرت المنزل قبل حوالي شهر من الآن دون أي سبب، ورفع عينيه وأكفَّه نحو السماء وتمتم قائلاً: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
هدم البيت من قبل قوات الاحتلال الصهيوني لم يلقَ ذاك الاهتمام الكبير من قِبَل الحاج أبو زياد وعائلته، وهو يضع بين عينيه الهدف الأسمى والأكبر، وهو العودة إلى بئر السبع، ليقول: "ليهدموا ما شاءوا وليقتلعوا الأرض كيف شاءوا، لكن رح نبني ونعمَّر، ليس هنا ولكن هناك على أرضي وأرض أولادي وأهلي في بئر السبع".
ويبقى الأمل بالعودة حلمًا لآلاف الفلسطينيين المهجَّرين إلى فلسطين المحتلة عام 1948م.