نقد المنقود فلسطينياً








عبّاد يحيى
يحدث أن يتورط المشتغلون بالشأن العام، والمعلقون عليه، بدوامة نقد دائري، يعود لينقد مرات الموضوعات نفسها، من دون تقدم جوهري في مقولته. نقد للمنقود ببساطة، وفي كل مرة، يحاول أن يبدو كأنه يحمل جِدّة ما، أو يحاول تقديم نفسه بحلّة مختلفة، إلا أنه، في الحقيقة، اشتغال مكرر لا يختلف، في كل مرة، عن سابقتها. يبدأ كموقع مناوئ للحالة المنقودة، وبعد حين، يغدو معها جزءاً من الواقع، بل امتداداً للحالة موضع النقد، وتحديداً حين يستقر النقد في المواقع التي توفرها الحالة المنقودة لمعارضتها أو نقدها.

أحياناً كثيرة، يتم الأمر من دون وعي، ربما لإشكال في فهم النقد ودوره، أو التردد بين مقولات عامة غير محددة، أي أطياف نقد ومحاولات قاصرة عن بناء تصور نقدي متين متكامل. في أحيان أخرى، يتم الأمر بوعي كامل، كأن الناقد يريد أن يظل في الدوامة، ويتمنى ألا تنتهي، ويرجو أن توفر الحالة المنقودة، كل حين، وجهاً جديداً، يمكّنه من نقده. وفي الغالب، هذا نقد المستفيدين من النقد، معنوياً أو مادياً، أو ربما اشتغال بحثي، أو سياسي، أقرب إلى وظيفة.

وإلى جانب كون هذا النقد، في أحد أوجهه، تثبيتاً للحالة المنقودة، يمكن أن يكون مهدداً في دوره ومصالحه، إن تغير واقع الحال، أو تأسست حالة جديدة بدل الحالة المنقودة.

فلسطينياً، مثلاً، يكرر مشتغلون بالسياسة، وناشطون سياسيون وخبراء وأكاديميون ومثقفون ومهتمون بالشأن العام، مقولاتٍ ثابتة ومتشابهة، رافضة دور السلطة الفلسطينية وموقعها، وغالباً ما يبدأ النقد من جذور حالة السلطة، والدور المفترض لها والمتماهي مع الأدوار الوسيطة التي تتولاها نخبة محلية تتوسط بين الاستعمار والمستعمرين.

ويتسع النقد ويتمدد، حتى يصل إلى كل إجراء أو قرار أو مسلك سياسي أو اجتماعي أو قانوني للسلطة. وفي السياق، تتكرر مقولات النقد للدور الوظيفي في خدمة الاحتلال، والقيام بأعبائه بالوكالة، وصولاً إلى تشبيهاتٍ ومقارباتٍ منتشرة في السجال الإعلامي، ترى السلطة بلدية صغيرة وشرطي حراسة بدوام جزئي. ويجري هذا النقد، على الألسن، وبمتانة واضحة، وتعبيرات لا تعوزها الدقة والبلاغة.

معرفياً، يظل النقد ناقصاً، بل قد لا يمتلك استحقاق تسميته بالنقد، إن لم يهدف إلى "القطيعة" مع الحالة موضع النقد، أي أن هنالك سعياً واضحاً إلى مراكمة نقد يهدف إلى قطيعةٍ تتجاوز الواقع، قطيعةٍ بكل دلالات المفردة الحادة، ولعل أهم تجلياتها وصول النقد إلى استنفاد مهمته، فلا يغدو فيها المنقود مادة للنقد. في حالة السلطة، لا يمكن، مثلاً، الوصول إلى مقولات قاطعة، كالتحديد الوظيفي لدور السلطة وكيل استعمار، ثم العودة، بعد ذلك، في محاولة لتحليل قانون عابرٍ، أقرته وزارة ما ضمن تصورٍ للسلطة، كجهاز دولة في سياق نيوليبرالي. هذا يعني أن القطيعة كانت زائفة، أو أن النقد أصبح اشتغالاً، بحد ذاته، من دون غاية ومقصد.

قد يلتبس الأمر على مستوى معرفي، وتتدخل فيه عوامل مختلفة، أهمها اقتيات سوق البحث على النقد وتحويل النقد من مشروع معرفي إلى وظيفة، إلا أن اللافت غياب القطيعة العملية، وتحديداً عند الناشطين السياسيين، والمشتغلين بالشأن العام في مواقع مناوئة لمشروع السلطة، وعودة هؤلاء، كل مرة، إلى سجالات النقد التي يفترض أنهم تجاوزوها، أو بلغوا فيها قطيعة عملية، ويبدو المشهد محكوماً بالعبث، حين يصل ناشطون سياسيون إلى قطيعة مع السلطة، كوكيل استعمار، ثم يعودون، ليخوضوا معها سجالاً حول حرية التعبير، هو في جوهره تعامل معها، بما يتناقض مع ما أفضى له نقدهم الطويل. اللافت، هنا، أن المنقود يكتسب خبرة في إعادة ناقديه إلى ما قبل القطيعة، مستفيداً من إدامة النقد، وفي أحيان كثيرة، مذكياً لها، فيغدو الأمر، مع الوقت، كاختلاف وجهات نظر، لا صراعاً عملياً ومعرفياً.
تاريخ الاضافة: 06-10-2014
طباعة