حوار مع الأديبة الفلسطينية نزهة أبو غوش




 أجرى اللقاء: وحيد تاجا
أكدت الكاتبة المقدسية نزهة أبو غوش بأنها ومن خلال كتابها الأخير "مهرج فوق أسوار القدس" أرادت للقارئ أَن يدخل إِلى أَعماق الإنسان الفلسطيني عامّة، والمقدسيِّ خاصة.. مشيرة إلى أن التزامها بهوية الإنسان الفلسطيني المقدسي وهمومه القوميّة، والوطنيّة كانت بارزة؛ لأَنّها "لا تبتعد عن هويّتي، وقوميّتي، وهمومي". وعن كتابها الأول "لحن الماضي" تقول الأديبة نزهة في حوارها مع "مؤسسة فلسطين للثقافة": إنه كان بمثابة فرصة ذهبيّة؛ لكي تعبِّر به عن قوَّة المرأَة، وأَهميّتها كعضو فعّال لا يمكن الاستغناء عنه في المجتمع، مشيرة أنها أَبدت في الوقت نفسه رأيها حول الرّجل، حيث كان ضحيَّة من ضحايا المجتمع على مدى العصور، آن له أَن يتحرّر وينظر إِلى المرأَة نظرة المساواة على الأَقل.
وعن تحولها للكتابة للأطفال تقول: جاء كتابي الأول "هشام والعمَّة هيام"، بناء على دعوة من المسئولين في التربية لكتابة قصص تربويَّة هادفة للأَطفال؛ بسبب عدم توفّرها في مكتباتنا، أمّا باقي القصص فجاءَت معظمها بعد أَن رزقني الله بالأَحفاد. "أردت أَن أَكون جدّة تروي قصصًا شيِّقة ممتعة لأَحفادها، تكسبهم من خلالها القيم، واللغة، والمضامين التربويّة، مبتعدة بذلك عن قصص الأَساطير، والخرافات الّتي تربّينا عليها، فكانت قصصًا بطعم وذوق آخر جميل".
والأديبة نزهة أبو غوش مقدسية المولد، حصلت على اللقب الجامعي الأَول في التربية واللغة العربية من جامعة القدس المفتوحة. عملت مرشدة تربوية للأطفال في مركز الأمومة والطفولة، ثم مركزة لبرامج تربوية وثقافية في مركز جماهيري بلدتها .
صدر لها حتى الآن 16 كتابا: لحن الماضي، مهرج فوق أَسوار القدس، أما كتبها  للأَطفال فهي: هشام والعمة هيام، لا للخصام نعم للسلام، خروف العيد، سعيد وأَفراح العيد، سر خوف هديل، ضيف في حر الصيف، حسام وهدايا الأَحلام، جدي خلدون وشجرة الزيتون، رماء وقطرة الماء، عائلة الحمضيات.

* إذا عدنا سوية إلى البدايات.. وسألنا كيف كانت.. ومن هم الأدباء الذين تأثرت بهم.. والذين هم مصدر الإلهام حالياً.. ماذا تقولين؟
** كانت بداياتي في كتابة الأَدب منذ نعومة أَظفاري، حيث وجدت لغتي العربيّة وسيلة مهمّة وضروريّة في التعبير عن الذَّات. عبّرت بها عن فرحي، وحزني، وأَلمي، وقهري. شكوت، وبكيت، وضحكت من خلالها؛ فبالتالي شعرت بمدى تفهُّم الآخرين لما أَردت أَن يصلهم، سواء كان المعلِّمون، أَم الأَصدقاء، أَم الأَهل، وغيرهم.
 قرأْت في صغري لاحسان عبد القدُّوس، يوسف ادريس، يوسف السباعي، في المرحلة الثانية، انتقلت لقراءات أُخرى مثل كتابات نجيب محفوظ التاريخية والاجتماعيّة والنفسيّة و... بالمرحلة التّالية أَكثرت من قراءة مؤلّفات غادة السّمان، ليانا بدر، ثمَّ كل مجموعة حنّا مينة.
وجدت أَن قراءاتي لكلِّ هؤلاء ساهمت اسهامًا كبيرًا في صقل موهبتي الأَدبية. فقد أَخذت عن محفوظ مثلًا الدِّقة، والتَّفصيل في الوصف، ومن حنّا مينا الجرأَة الأدبيّة، وسلاسة القص، والصِّدق في التّعبير عن المشاعر، ومن غادة السّمان، اهتمامها بالقضايا المعاصرة، ودعوتها للارتقاء بالمرأَة، وجرأَتها. أَمّا عن مصادر الهامي، فهي أَشياء كثيرة، وأَشخاص ربّما أَعرفهم، أَو لا أَعرفهم. ربّما فراشة تحوم في الفضاء، أَو امرأة تحمل على رأْسها شيئًا ما، أو حتّى كلمة يقولها شخص ما، أو...الغريب انكّ لا تعرف متى تؤثِّر بك هذه الإيحاءات، وأَين.

* يلاحظ انتقالك بالكتابة من الكبار إلى الكتابة للأطفال والبالغين.. ما هو السبب في هذا الانتقال.. وأين وجدت نفسك؟
** في الحقيقة جاءت كتاباتي للأَطفال بعد كتاباتي للكبار، وكان الكتاب الأول "هشام والعمَّة هيام عام 2000"، وذلك بعد دعوة من المسئولين في التربية لكافة الأُدباء في البلاد لكتابة قصص تربويَّة هادفة للأَطفال؛ بسبب عدم توفّرها في مكتباتنا، فوقع الاختيار على هذه القصّة، ونشرتها. أمّا باقي القصص فجاءَت معظمها بعد أَن رزقني الله بالأَحفاد. أردت أَن أَكون جدّة تروي قصصًا شيِّقة ممتعة لأَحفادها، تكسبهم من خلالها القيم، واللغة، والمضامين التربويّة، مبتعدة بذلك عن قصص الأَساطير، والخرافات الّتي تربّينا عليها، فكانت قصصًا بطعم وذوق آخر جميل. كانت تغذيتي الرّاجعة لكتاباتي متمثِّلة في تعابير الأَطفال اللغوية، وتفهُّمهم للفكرة الّتي أَردت إيصالها لهم، كما رأَيت في عيونهم ما دفعني لكتابة المزيد والمزيد، وسأَظلُّ أّكتب لهم ما دام فيَّ نفس للحياة بإِذن الله... في الحقيقة كنت أَعتقد بأَنِّني أَجد نفسي في كتابتي النُّصوص الأدبيّة للكبار، لكن تبيّن لي بأَني لا أَستطيع الابتعاد عن كتابتي للأَطفال، فبهم أَجد نفسي أَيضًا، وبقوّة.

* بالتالي ما هي المواصفات التي ينبغي أن تكون في كاتب الأطفال برأيك..؟
** أرى أَنَّ على كاتب أدب الأطفال أَن يكون أَوّلًا إِنسانًا محبًّا للأَطفال، متفهِّمًا لاحتياجاتهم،
ورغباتهم، ومشاكلهم الاجتماعيّة والنّفسيّة والتربويّة، والأَخلاقيّة، وأَن يكون دارسًا لتربية الطِّفل، ملمَّا باللغة العربية، قواعدهاوأُصولها، وأَنيكون الكاتب دارسًا، أَو متعرِّفًا على المراحل العمريّة المختلفة الّتي يمرُّ بها الأَطفال، منذ سن الطفولة المبكِّرة وحتى سن المراهقة، بناءً على المواصفات السّابقة للكاتب، ومقوِّمات كتابته للأَطفال يمكننا القول بأَنَّ هناك أَدبًا قائمًا بذاته يسمَّى أَدب الأطفال.

* في مجموعتك القصصية الأولى "لحن الماضي وقصص أخرى" جاء التزامك بقضايا المرأة واضحا.. ؟
** كتاب "لحن الماضي" هو أوّل كتاب نشر لي عام أَلفين بعد كتاباتي الأَدبيّة والاجتماعيّة المختلفة الّتي كنت أَنشرها في صحف ومجلّات محليّة, اخترت بعض ما نشرت مسبقًا وأَضفته إِلى هذا الكتاب. احتوت معظم النُّصوص في الكتاب قضايا المرأَة العربيّة في المجتمع: مشاكلها، همومها، رغباتها، آلامها كنتيجة لتسلُّط الرّجل وجبروته عليها في ظلِّ مجتمع لا يرحم. كانت هذه القضايا نابعة من خلال إحساسي، واحتكاكي المباشر بالمجتمع الذكوري، الّذي يرى بأَنّ الذكر هو المخلوق المقدّس على هذه الأَرض، وأَنّ الأُنثى هي عبءٌ على أَهلها ومجتمعها.
  بصراحة كان كتابي هذا بمثابة فرصة ذهبيّة؛ لكي أُعبِّر به عن قوَّة المرأَة، وأَهميّتها كعضو فعّال لا يمكن الاستغناء عنه في المجتمع، وإِنّها أَقوى بكثير من الرّجل، ولا أَقصد بذلك القوّة الفيزيائيّة. بهذه المناسبة، في هذا الكتاب أَبديت رأيي حول الرّجل نفسه، حيث كان ضحيَّة من ضحايا المجتمع على مدى العصور، آن له أَن يتحرّر وينظر إِلى المرأَة نظرة المساواة على الأَقل.
التزامي بقضايا المرأَة كان واضحًا بالفعل، ليس بتناولي للمضامين فحسب، بل باختياري للشخصيّات أَيضًا في القصّة أَو النّص؛ حيث تناولت شخصيّات نسائيَّة ايجابية، قويّة متحدِّية، تطمح إِلى العزَّة والكرامة، وتبتعد عن الذُّل والمهانة، تسعى لبناء مجتمع قوي سليم من خلال أَبنائها ومجتمعها؛ وابتعدت عن تناول الشّخصيّات السلبيّة، مثل الجارية والزانية وغيرها.
كلمة أَخيرة أَقولها عن هذا الكتاب: "كانت مضامين هذا الكتاب بمثابة عبءٍ كبير جثم على قلبي سنوات عديدة؛ فأَزحته عنِّي بعيدًا من خلال هذا الكتاب بجرأَة، وثقة، وأَمانة، وسأَبقى أَعتزُّ به طالما حييت".

* وفي مجموعتك القصصة الأخيرة " مهرج فوق أسوار القدس" أيضا كان التزامك بقضية القدس.. وسؤالي كيف تفهمين الالتزام إنسانيا.. ووطنيا؟
** بالنسبة لكتاب "مهرِّج فوق أَسوار القدس"، فقد سرت به باتِّجاه آخر، جديد، حيث حمل ما بين صفحاته قضايا إنسانية معاصرة، أَهمَّها قضيّة الإنسان الفلسطيني، وخاصّة في مدينة القدس، ذلك الفرد الّذي يحمل همومًا خاصّة تختلف عن أَخيه الفلسطيني الآخر؛ نتيجة للوضع السِّياسي الّذي يعيشه في المدينة. دخلت من خلال الكتاب إِلى الشوارع الّتي تكثر بها البائعات على الطُّرقات، دخلت الحارات بفقرها المدقع، دخلت الأَزقة، ودور العبادة، والحواجز الأَمنيّة، والدّكاكين. دخلت السُّور. تحدّثت مع أَهل المدينة....تحدّثوا جميعًا عمَّا يقلقهم كلامًا آخر بعيدًا عن الكلام الّذي يقال عنهم في نشرات الأَخبار العالميَّة.
أردت للقارئ العربي، وغير العربي أَن يدخل إِلى أَعماق الانسان الفلسطيني عامّة، والمقدسيِّ خاصة.. إِن التزامي بهوية الإنسان الفلسطيني المقدسي وهمومه القوميّة، والوطنيّة كانت بارزة فعلًا؛ لأَنّها لا تبتعد عن هويّتي، وقوميّتي، وهمومي.

* هل أنت مع مفهوم الأدب النِّسائي.. وكيف تفهمين هذا المصطلح؟
** لا أَعرف لماذا أُسأَل دائمًا هذه السُّؤال؟ اقترحت مرّة على بعض أَصدقائي الكتَّاب والكاتبات أَن يكتب كلٌّ منَّا نصًا أَدبيًّا عن موضوع معيّنٍ دون أَن نضع أَسماءَنا على النَّص. عندما قرأ أَحدهم النُّصوص، لم يستطع أَحدٌ منّا أَن يميِّز إِذا ما كان هذا النَّص نسائيًَّا، أَم رجاليًّا. الأَدب هو أَدب، سواء كان للرّجل أَو المرأَة، لكن إِذا سأَلتني عن الإنسان الّذي بإِمكانه أَن يدافع عن قضايا المرأَة أَكثر، فأَقول لك بكلِّ صراحة: إِنَّها المرأَة نفسها؛ لأَنّه لا يفهم المرأَة إِلّا المرأَة. لا أَعتقد بأَن أَيَّ أَديب مهما كانت قدرته، بقادر على تصوير مشاعر امرأَة؛ لأَنّه ولا مرَّة في حياته عاش تجربتها. ربّما رآها، ربّما شعر معها، ربّما تضامن؛ لكنّه يظلُّ دائمًا بعيدًا عن خوض التجربة نفسها؛ فبالتالي تكون هنا الكاتبة أَكثر صدقًا. تصوّر مثلًا لو أَنَّ الكاتب المعروف حنَّا مينا وصف مشاعر امرأَة تعاني آلام المخاض، فربّما تكون مؤثِّرة، لكنّها لن تكون صادقة، إِذ يصعب على القارئ تصديقه، وتمامًا يحصل في حالة كتابة الكاتبة الأُنثى عن معاناة الأَعزب مثلًا.

* إذا عدنا إلى عالم الطفولة.. كيف تنظرين إلى مراحل الطفولة وتقسيماتها.. وما علاقة هذه المراحل بالكتابة للطفل؟
** قسّم علماء النّفس حياة الطُّفولة إِلى مراحل مختلفة، تكمِّل المرحلة التّالية المرحلة الّتي سبقتها بطريقة لولبيّة، خرج الأخصَّائيون النّفسيُّون: مثل بياجيه بنتائج مختلفة عن كلِّ مرحلة من مراحل الطّفولة، وأَنّ لكلِّ مرحلة ما يميِّزها عن غيرها. فمثلًا في المرحلة الأَنويّة - Egocentrism— تبدأ من عامين حتّىسبع سنوات يتطرّق الطِّفل إِلى المواضيع فقط من خلال وجهة نظره فقط، ولا يفرِّق بين الأَنا والآخر، وبين الواقع والخيال؛ أَمّا في مرحلة الإحيائية- Animism- مثلًا فيبدأُ الطِّفل بإعطاء الأَشياء الجامدة والمتحرِّكة الحياة والشعور. أَمَّا في المرحلة الواقعيّة- Realism - فيدرك الطِّفل الأَشياء عن طريق تأثيرها الظاهر، أَو نتائجها المحسوسة، ولا يربطها بالأسباب الحقيقيّة. ما أَردت قوله حول تقسيم العلماء لمراحل الطُّفولة- الّتي لست بصدد شرحها هنا- بعد دراسات مطوّلة، وتجارب مباشرة، وطويلة مع الأَطفال عليها أَن تساعد، كاتب الأَطفالعلى إدراك قدرات، ومدركات، ومتطلّبات كلِّ مرحلة عمريّة، حيث تمكِّنه من كتابة قصص مناسبة لهم؛ وهذا ما يحصل معي أَثناء كتابتي لقصّة الأَطفال، والّتي تعزِّزها دراستي لموضوع التّربية، والأَدب العربي.

* يلجأ الأديب في كثير من الأحيان إلى طرح أسئلة "مقلقة" بين ثنايا كتاباته.. وغالبا ما يتركها دون إجابات.. هل يصح هذا أيضا على الأدب الموجَّه للطفل أو للبالغين..؟
** كثيرًا ما يطرح الأَديب الأسئلة خلال نصِّه، ويتركها مفتوحة أَمام القارئ؛ كي تسنح له فرصة التَّفكير، والاستنتاج، والاستنباط من خلال الأَحداث وربطها بواقع الإنسان المعيشي، وعلاقتها بفلسفة كلِّ قارئ، وآَرائه الخاصّة به، وأَحلامه وخيالاته، ونظرته للحياة بشكلٍ عام، ونظرته لنفسه بشكلٍ خاص.
أرى أَنَّ هذا الأُسلوب يقوِّي ويعزِّز من قيمة النّص الأَدبي، ويجعله أَكثر إثراءً، وعمقًا، أَمّا في حالة قصص الأَطفال، فأَرى أَنّها ضروريّة جدًا، لكنّها يجب أَنتراعي في بنائها المراحل العمريّة، بما يتطابق وتقسيمات مراحل الطُّفولة الّتي ذكرت في الإجابة السابقة أَعلاه.

* ما هي الأسئلة التي تعمد الكاتبة نزهة إلى طرحها في قصصها للكبار.. أو للصغار؟
** عندما أُفكِّر بكتابة أَسئلة داخل النّص، فلا أَكتبها إِلّا من خلال إِيماني بمدى قدرة القارئ على الإجابة عليها؛ نتيجة لتفهمه النَّص، ونتيجة للفكرة الّتي أَودُّ طرحها بشكل رمزيِّ مباشر، أَو غير مباشر؛ كذلك من خلال إيماني بقدراته العقليّة الّتي يمكنه شحذها من أَفكاره الّتي أَتصوّرها، وأَرجوها بأَن تكون أَكثر عمقًا، وموضوعيّة، معتمدًا بها على تصوُّراته، ورؤيته الّتي بناها خلال تجاربه في هذه الحياة.
أَردت أَن أَضع أَسئلة للصّغير والكبير، يجيب بها عن حقيقته، عن وجوده، عن حقوقه داخل أُسرته، ومجتمعه، وعالمه، عن ثقته بنفسه، عن علاقته بالآخرين، عن تقبّل الذَات، وتقبُّل الآخر، عن احترام الإنسان لأَخيه الإنسان مهما اختلفت الأَنساب والألوان، والأعراق، والدِِّين. أَردت أَن أَقول لهم بالفم الكبير: لماذا؟ حتّى متى؟ إِلى أَين ستصلون بالنِّهاية؟ لماذا لا تفهمون أَنفسكم قبل أَن تفهموا الآخرين؟ لماذا تتنازلون بهذه البساطة؟ لماذا لا تتنازلون؟ وهناك أَلف لماذا ولماذا...

 * رغم إشارة عدد من النُّقاد لسلاسة اللغة المستخدمة في قصصك.. إلا أنهم انتقدوا استخدامك للسجع في بعض قصص الأَطفال؟
** في الواقع، صدق النُّقاد في إشارتهم إِلى سلاسة اللغة الّتي أَستخدمها في الكتابة، فأَنا لا أُحبُّ التّعقيد بها، ويهمُّني أَن تصل الفكرة واضحة للقارئ من خلال هذه اللغة. عندما أُفكِّر بالكتابة، تكون أَولوياتي هي الفكرة الّتي أَودُّ أَن أُوصلها للقارئ، ثمَّ أَستخدم اللغة، والخيال، والعاطفة كوسيلة ضروريّة لإيصال هذه الفكرة بشكل واضح ومشوِّق.
أَمّا عن سؤالك عن قضيّة السّجع التي انتقدها البعض في قصص الأَطفال، فقد استخدمتها هي أَيضًا كوسيلة لإيصال الفكرة للطِّفل. لقد أَحببت دائمًا هذه اللغة الّتي استخدمها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، حيث لا تكاد سورة تخلو منه. من خلال دراستي لأَدب الأَطفال، واطِّلاعي الواسع على لغات الأَدب الآخر، رأَيت أَنَّ أسلوب السجع هو الّذي يستخدم بكثرة في أَدب الأَطفال، وأَنّه نهج جديد يتَّخذه كتَّاب أَدب الأَطفال؛ باستخدام الطريقة الصّوتيَة عند الأَطفال، والعمل على تعزيز الوعيالصّوتي لديهم، وقد أُجريت دراسات عدّة في هذا الخصوص من قبل اللغويين، في صفوف الصِّغار، فكانت النّتيجة رائعة، حيث ساعدت لغة السّجع إِكساب الطِّفل اللغة المشبعة بالنّغم الموسيقي المحبّب للطِّفل؛ فبالتالي ساعدته على أَن ينطق اللغة بشكل سليم، ويكرِّرها بإتقان ومهارة، عدا عن استمتاعه بها. أَنا مع استخدام هذا الأُسلوب الحديث للسّجع، لكن ليس بأَيِّ ثمن، أَي أَلّا يكون متكلّفًا مبنيًا على حساب النّص، فكما ذكرت سابقًا بأَنّ الفكرة في النّص هي الأساس، ثمَّ تأتي اللغة كوسيلة تعبيريّة.

* الأسطورة والرمز والأنسنة والخيال العلمي تتكرر في أدب الأطفال..؟
** من خلال الأُسطورة، والرّمز، والأَنسنة، والخيال العلمي، يمكننا أَن نطوِّر خيال الطِّفل بشكل واسع، وهذا ما يدعو إليه المربُّون والعلماء. أَنا شخصيّا أَرى بأَنّه لو ظلَّ الطِّفل دون خيال، لبقي دون تصوُّر، ودون رؤية مستقبلية، وتوقف طموحه، وهذا هو الشيء الخطير؛ لذا توجّب على كاتب الأَطفال العمل على تطوير خيال الطِّفل، ليصبح خيالًا خصبًا قادرًا على التَّصور والإبداع. أُوصي أَن يراعي الكاتب المراحل العمريّة لتطور الطِّفل: المرحلة الأنويَّة، والمرحلة الاحيائيّة، والمرحلة الواقعيّة.

* ولكن كتابتك أقرب إلى الواقعية..؟
** هذا صحيح. بالنسبة لكتاباتي للأَطفال فهي كتابات تنتمي للمدرسة الواقعيَّة، التّعليميّة، الهادفة؛ وذلك اِنطلاقًا من مبدأ استخدام القصّة كوسيلة تكسب الطِّفل القيم، والمبادئ، واللغة، والمعلومات الحقيقيّة في الطَّبيعة، والحياة. إِن استخدامي لمثل هذه القصص لا يعني بأَنّني مبتعدة عن استخدام الرُّموز والأَنسنة، والخيال؛ بل على العكس فقد استخدمتها في كلِّ القصص مثل: مسرحية الحج معروف والخروف، حيث أَجرى الخروف حوارًا شيِّقًا مع الحاج معروف قبل تقديم الأُضحية، كذلك في قصّة الحمضيات، وحوار حبّاتها معًا، وغيرها. هذا ولا ننسى الخيال لأَحداث القصّة نفسها، وفي أَيِّ زمان ومكان وقعت؛ حيث بنيت على الخيال المستند إِلى المنطق، والواقع. فمثلًا في قصّة "سرُّ خوف هديل" كان هناك بطيخة عجيبة عملاقة عاشت في حديقة طبيعيّة وبين أَناس عاديين يحرسها حارس، خافت هديل من صوته الّذي يحذِّرها من لمس الورود والفراشات. هنا كانت الوقائع واقعيّة، لكنّ البطِّيخة منوحي الخيال، وهي الّتي ساعدت هديل على التَّحرر من خوفها، أَمّا بالنسبة للأُسطورة فقد ابتعدت عنها في كتاباتي، ولم أُحبُّ أَن أَحدِّثها لأَحفادي؛ انطلاقًا منِّي لدمج الطِّفل بواقعه الّذي يعيشه وعليه التقدُّم والتَّطور نحو الأَفضل دائمًا. والابتعاد عن الغول والذِّئب الَّذي يفتحون بطنه؛ من أَجل إخراج الجدَّة الّتي ابتلعها وغيرها من الحكايات الخرافيّة،والأَساطير.

* ما هو دور الرسم في أدب الأطفال.. وهل تلغي القصة المرسومة النص الأدبي؟ وأيهما أهم الصورة أم الكلمة؟
** للرسم في قصّة الأَطفال دور فعّال، وإيجابي، إِذ أَنّ لها دورًا في جذب انتباه الطِّفل إِليها، والتَّقرب منها دون ملل، والاستمتاع بالرسومات والأَلوان. يتمكن الطِّفل من إعادة أَحداث القصّة لوحده مرات عدّة بعد سماعها من الكبار؛ لأَن الصُّورة هي الموجه في تسلسل الأحداث، وخاصّة للطِّفل الّذي لم يتمكن من القراءة بعد -الطُّفولة المبكرة جدًا- وهذا يساعده أَيضًا على تعلُّم اللغة وإتقانها من خلال تكراره لما قرأه له الكبار من النَّص. عندما يتدرّبُ الطِّفل على تصوير الرُّسومات في ذهنه، فهو يتدرّب أَيضًا على تصوير الحرف، ثمَّ الكلمة. تعلِّم الرّسومات في القصّة الطفل على دقة الملاحظة والتدقيق، حيث يفتش في كلِّ مرة عن الرسومات الصّغيرة الموجودة بين الصُّور. تساعد الصُّور أَيضًا الطِّفل على بناء الخيال، الّذي سيحتاجه في مراحله اللاحقة؛ إِذ سيحتاج إِلى الخيال الخصب عند قراءَته قصصًا غير مصوّرة؛ بحيث لا أَرى حاجة لها عند كبره؛ كي لا تحدَّ من خياله.
 لا أَرى أَبدًا أَنَّ الصُّور المرسومة في قصص الأَطفال تلغي النّص. بالقصّة نريد ايصال فكرة ما للطفل، فهل ستصله هذه الفكرة من خلال رسومات عشوائيّة يقرِّرها الرَّسام لوحده؟ النَّص الَّذي يكتبه الكاتب هو بمثابة الموجِّه الحقيقي للرسّام، ولولا هذا التوجيه لما كانت القصّة.بصراحة أَرى أَنّ النّص والرسومات تكمل بعضها البعض في المراحل الأُولى، أَمَّا المراحل المتأَخرة، ستكون الكلمة أَهم من الصورة بكثير.

* أدب الأطفال في الوطن العربي يغرق بالمترجَمات.. ما رأيك؟
** كثرت ظاهرة ترجمة أَدب الأَطفال في وطننا العربي، وأَنا لست ضدَّ التَّرجمة، فليس هناك خطأٌ فيها، إِذ يمكنها أَن تطلعنا على أَدب الآخر، في بلد آَخر، ولا تجعلنا متقوقعين داخل أَنفسنا، وهذا شيء ضروري، لكنِّي أَيضًا أَدعو كتّابّنا لكتابة المزيد من الكتب الموجِّهة لأَطفالنا، والّتي لا تقلُّ فائدة وجودة عن الكتب المترجمة. أَرفض الكتب المترجمة في حالة أَنّها تتنافى مع قيمنا، وعاداتنا، وتقاليدنا، كما أَرفضها إِذا لم يعبِّر بها المترجم باللغة العربيّة الأصليّة، وألا تكون ترجمة حرفيّة.

* سؤال أخير.. ما الذي يشغلك الآن.. وماذا ننتظر من جديد؟
** تشغلني الآن كتابة رواية عن مكانة العربي الفلسطيني، ودوره، وهجرته، تطلُّعاته، رؤيته المستقبليّة، وعلاقة ماضيه البعيد، والقريب بحاضره، في ظلِّ الاحتلال، وأَطمح بأَن يصل صوتي من خلال هذه الرواية إِلى المستوى العالمي، ويقرأني البعيد قبل القريب.
والكتابة للفتيان، حيث تفتقر مكتباتنا العربيَّة، لهذه الفئة العمريَّة، وسوف أكتب قصصًا مناسبة لجيل المراهقة.

تاريخ الاضافة: 20-11-2011
طباعة