إياد عاطف حياتلة الشاعر أضحى هويّة نباهي بها ونرفعها في وجه النسيان





سمير عطية/ دمشق
  الشاعر إياد عاطف حياتلة هو ابن قرية الشجرة في الجليل الأدنى. والده الشاعر عاطف حياتلة، أما جده فهو الراوية كامل حياتلة (أبو هويّن). ولد عام 1960 في مخيّم العائدين في مدينة حمص بسورية، حيث استقرّ المقام بمعظم أهل قريته بعد نكبة عام 1948. انتقل بعدها مع عائلته إلى مخيّم اليرموك جنوب مدينة دمشق عام 1966، وفي عام 2000 ألقت به عصا الترحال – على حد وصفه - في اسكوتلندا حيث يقيم الآن هناك مع زوجته وأولاده الثلاثة مؤقتاً بانتظار العودة إلى فلسطين. التقيناه في مجلة «العودة»، وكان هذا اللقاء المتميز معه:
«العودة»: من مخيم العائدين في حمص، إلى مخيم اليرموك في دمشق.. كيف تقرأ المخيم؟
هذا المخيّم ضحكتي
حريّتي
وفضاءُ أغنيتي
ورائحةُ الذين أحبّهم
المخيّم هو الوطن المؤقت بانتظار تحقيق الوطن المؤجّل، هو مصنع المقاتلين، ومفجّر الانتفاضات، ومجترح معجزات الصمود، المتكابر أبداً على المجازر، على عتبات بيوته المبعثرة في زواريبه الضيّقة الملتوية التي تذهبُ بعيداً باتجاه كلّ الوطن، ترنّمت بأغاني الثورة، وعلى مقاعد مدارسه حفظتُ قصائدها، وعلى لافتات شوارعه تعرّفتُ إلى قرى فلسطين ومدنها، وعلى جدرانه المتهالكة تأملتُ صور الشهداء الذين وهبوا دماءهم على مذبح الحريّة، ونثرتُ الرياحين على أضرحة الذين أتعبهم اللجوء في مقبرته، وفي عيون وعجائزه التي نُقشتْ على وجوههم تضاريس البيادر والبيّارات والحواكير وعيون الماء أبحرتُ في كتاب الذكريات، وعلى صفحات أيدي رجاله ونسائه الخشنة التي تكدحُ نهاراً وتهدهدُ أحلام الصغار ليلاً حفظتُ ملاحم العودة عن ظهر قلب. ولا أخفيك يا صديقي أنّ المخيّم قد تغيّر كثيراً، لكنني ما زلت قادراً على نبش مخيّمي الذي أعرف وأحب من خلف واجهات المحالّ التجاريّة والأبنية الحديثة.
«العودة»: من مضافة جدك إلى شاعرية والدك.. كيف بدأ مشوارك مع الأدب والثقافة؟
بدأ مشواري مع الأدب والشعر مبّكراً، حيث فتحت عيوني على مكتبة المرحوم والدي الزاخرة بكتب الأدب ومجلاّت الشعر، وعلى ذاكرة جدّي الفيّاضة بعيون القصائد العربيّة وحكايات الشعراء. وأذكر أنني كنت أقرأ لجدّي الضرير من كتاب تاريخ الأدب العربي وأنا لم أتجاوز عامي العاشر بعد، وأيضاً من كتاب ديوان الوطن المحتل الذي أهداه إليه مؤلّفه الشاعر يوسف الخطيب، الذي يوثّق فيه للروّاد من شعراء الأرض المحتلّة كدرويش والقاسم وزيّاد وغيرهم، وكان جدّي رحمه الله يطرب وينتشي لما أقرأ له ويحفظ أكثره من أوّل أو ثاني قراءة، ويباهي بي بين روّاد مضافته التي كانت أشبه بالصالون الأدبي، حيث يجتمع فيها الشّعار والزجّالون والمهتمون من أهالي المخيّم لتبادل مواويل الوطن واستذكار لياليه الفائتات واستشراف صباحاته القادمات.
هناك أنصتُ بقلبي قبل أذاني لجارنا الشاعر أبو سعيد الحطّيني، وصديق جدّي الشاعر الحاج فرحان سلاّم، وحادي الثورة الشاعر يوسف الحسّون، وشاعر العتابا السّوري أبو محمّد محمود الحسواني، فضلاً عن الشاعر والمغنّي الشجراوي أبو عرب.
«العودة»: وماذا عن بداياتك الشعرية؟
لم يضع ما ذكرته لك سابقاً سُدىً، ولم تذهب صحبتي لجدّي وجلساته وكتب والدي هباءً، فلا شكّ في أن ذلك الزرع أزهر على لساني أشعاراً وقصائد، فكتبت محاولتي الأولى وأنا في الصف الثامن، وأذكر أنّها نالت استحسان مدرّس اللغة العربية في مدرسة المخيّم، وبعدها تكرّرت المحاولات مع تركيزي على قراءة الشعر قديمه وحديثه والتعمّق في أوزانه وبحوره والمداومة على حضور الندوات والأمسيات. وكنت أقرأ ما أكتب لأصدقائي فقط، إلى أن كسرت إنتفاضة الحجارة خجلي ووجلي، فأرسلت بعض قصائدي إلى المجلاّت التي نشرتها، كمجلّة الهدف ومجلّة الوحدة ومجلّة الكاتب الفلسطيني التي كانت تصدر عن إتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين في دمشق، وشاركت أيضاً في أمسيات شعريّة كثيرة حينها في مخيّم اليرموك ودمشق مثل ملتقى أبو سلمى للشعراء الشباب الذي نظمه الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد عام 1988، وغيره من الملتقيات، حيث قرأتُ مع الشعراء ناهض الريّس وميخائيل عيد وصالح هوّاري، وأيضاً أحييت بعض الأمسيات الشعرية في صنعاء أثناء عملي هناك بين عامي 1992-1993.
«العودة»: بماذا تفسّر حضور المخيم والوطن باستمرار في قصائدك وكتاباتك؟
أنا عاشق المخيّم المتيّم، ولدتُ به عشيّة نكبة، وترعرعت في حواريه صبيحة نكسة. فتحتُ عيوني على سقوفه المتهالكة، وأغمضتها على حلم عودة. كنت أعدّ الدقائق والثواني لأعودَ إليه عندما أغادره، ولم أتخيّل للحظة أنني سأرحل عنه إلا إلى فلسطين. لكنّ ذلك حصل، فقد تركته لقدره في ليلة خريفيّة حالكةٍ ورحلت، وهذا صحيحٌ من الناحيّة العمليّة فقط، أمّا من الناحيّة النظريّة فلا، لأنّني حملته على ظهري في غرباتي الثلاث. زرعته في قلبي شتلة ورد، وجُبت به ثلاث قارّات، جنوباً، فغرباً، فإلى أقصى الشمال نقلت حكاياته الدافئة إلى الجميع، كتبت فيه الأشعار قصائد حبٍّ وشوقْ، ترجمتُ ملاحمه إلى الإنكليزيّة ورطنت بها في أمسياتي الشعريّة هنا. رَويتُ للمترفين الذين لم يعرفوا شظف العيش يوما تفاصيل الجوع والقهر والتشرّد والحرمان، ربّما لم يفهموني تماماً، لكنّهم أحسّوا بما عانيته أنا وشعبي المشرّد من نبرة صوتي، وقرأوا في عيوني شوقي الملتهب إليه وإلى أرض آبائي وأجدادي، وعرفوا عزمي وتصميمي على الانطلاق منه في رحلة العودة الحتميّة القادمة. وأعتقدُ أنّ حضور الوطن والمخيّم في قصائدي يرجعُ إلى كونهما متجذّرين في وعيي ولاوعيي أيضاً، ولطالما حلمت بالشجرة عندما كنتُ أنامُ في المخيّم، ولمّا غادرته صرتُ أحلمُ بأننّي نائمٌ فيه أحلمُ بالشجرة.
«العودة»: كتب والدك الشاعر قصائد الحنين للوطن وكتبت أشعار الاشتياق للمخيم، هل نحن أمام تجربة شعورية جديدة لجيل ما بعد النكبة؟
لقد شكّلَ المخيّم بالنسبة إلى والدي وأقرانه من الشعراء واللاجئين محطّة صادمة لهم ولأحلامهم، بعد أن اقتُلعوا من أرضهم اقتلاعاً بين ليلة وضحاها، ووجدوا أنفسهم بلا وطن مبعثرين بين خيامه وبيوته التنكيّة، وكانت كلمة "لاجئ" في قاموسهم أشبه بالشتيمة بعد السنوات الأولى للنكبة. وفضّلوا عليها كلمة "عائد". وبين شعورهم بالذنب لأنّهم تركوا أرضهم ورحلوا، وقسوة حياة المخيّمات المُذلّة والمهينةِ حينها، أرى أنّهم رفضوا تلك الكلمة ولم يستطيعوا التصالح مع المخيّم، وظلّت عيونهم تتطلّع إلى مدارج طفولتهم وملاعب صباهم، فكتبوا قصائد الحنين إلى الوطن وأفاضوا في وصف وجدهم وفقدانهم واشتياقهم له، وأسهبوا في نقل كل ذلك للجيل الذي أعقبهم، فأتينا نحن الذين ولدنا في المخيّم ولم نرَ فلسطين رأي العين، فزاوجنا بين حميميّته – رغم قسوته – وبين الوطن الحلم، وكنّا أكثر قدرة على التصالح معه، ومع تواصل الصراع مع العدو الصهيوني، فقد اضطرّ الكثيرون من أبناء شعبنا إلى التشرّد من مخيّمٍ لآخر، فكانَ هذا أدعى للتمسّك به والدفاع عنه، فأضحى هويّة نباهي بها ونرفعها في وجه النسيان، وحالة نستكشف جماليّاتها ودفئها وسط ركام البؤس والقهر فيها، ونرتكزُ عليها في قصائدنا، ونوحّدُ بين عشقها وعشق فلسطين، ولم ننظر إلى بديل لها قط، وإذا كان جيل والدي قد رأى في المخيّم محطّته الأولى – والبديل القسري للوطن – بعد النكبة، فإنّ جيلنا يرى فيه المحطّة الأخيرة للانطلاق في رحلة العودة.
«العودة»: واصلت مسيرة الشتات إلى اسكتلندا.. هل أبعدتك الجغرافيا عن فلسطين؟
لم تكن فلسطين في يومٍ ما جغرافيا، بل هي حالةٌ وجدانيّةٌ وحلمٌ عصيٌّ على الامّحاء من ذاكرة اللاجئين، وواقع يوميٌّ معيش لدى الفلسطينيّ بغضّ النظر عن مدى قربه أو بعده عنها جغرافيّاً، ولستُ أبوح لك بسرٍّ عندما أقول: إننّا في غربتنا عن المخيّم وفلسطين تَكرّس تصميمنا أكثر على زرعها في وجدان أبنائنا، وقد أتاحت لي هذه الغربة التعرّف إلى العديد من أهلنا في الداخل والتواصل الثقافي والاجتماعي معهم، وفتحت أمامي جبهة جديدة لنقل معاناتهم ونضالهم للجمهور الأوروبّي.
«العودة»: كيف تقرأ الحضور الثقافي الفلسطيني في أوروبا؟ وهل يمكن أن يكون أكثر فاعلية؟
أعتقد أنّ الحضور الثقافي الفلسطيني في أوروبا لا يزال فرديّاً ويعتمد على جهود المبدعين الذاتيّة، ولم يصل بعد إلى مرحلة تبنيّه من المؤسسات المختلفة الموجودة هنا، التي تركّز أغلب نشاطها بين أبناء الجالية الفلسطينية أو العربيّة، ولا تفعل ما هو مطلوب منها لجهة تعريف الأوروبيين بأدبنا وثقافتنا، وهذا ما يجب أن تُركزّ الجهود عليه. وحتّى في الجانب الأول، أرى أنّ هذه المؤسسات لا تبحثُ جدّياً عن المبدعين المقيمين هنا وتتبنّاهم أو تتواصل معهم لأجل إحياء فعاليات ثقافية، وأنا أتحدّث عن تجربة شخصيّة في هذا المجال، فقد اتّصلت بثلاثة مؤسسات إعلامية وثقافيّة هنا بغرض المشاركة في أنشطتها، وللأسف لم ألقَ آذاناً مُصغية من أحد منهم.
«العودة»: ما هي القصيدة الأكثر قرباً إلى نفسك.. من إبداعك أولا ومن ثم من إبداع الشعراء الآخرين؟
أحبّ أن أذكر هنا قصيدة كتبتها في غربتي بعنوان "طيف المخيّم"، أمّا من إبداع الآخرين، فهناك الكثير من القصائد القريبة إلى قلبي، كقصائد صديقي الشاعر المرحوم خميس لطفي، وقصائد المرحوم والدي الشاعر عاطف حياتلة، وأخصّ بالذكر هنا قصيدته "بانت فلسطين" التي يعارض فيها قصيدة "بانت سعاد" لكعب بن زهير والتي مطلعها:
بانتْ فلسطينُ إنّ القلبَ مَتبولُ... مُتَيّمٌ بِهوى الأوطانِ، مَكبـولُ
«العودة»: كلمة أخيرة.. أين موقع حق العودة في وجدانك وثقافتك؟
حق العودة هو حقٌّ لا عودة عنه، توارثناه عن آبائنا وسنورثه لأبنائنا إلى أن يتحقق بإذن الله، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائدي من تأكيد هذا الحق والتذكير به والدعوة إلى عدم التنازل عنه أبداً.




تاريخ الاضافة: 18-12-2010
طباعة