الشهيد فادي البطش كما عرفته

صورة ذات صلة

د. شريف أبو شمالة
كوالالمبور
أعلم أن كلامي لن يعوضك عن والدك الذي امتلأ قلبه حبا لك ولإخوتك أسيل ومحمد، وأعلم أنه بعد اليوم لن يوصلك حتى باص المدرسة حاملا عنك حقيبتك الثقيلة ليودعك كما اعتاد، لن يأخذك وأختك إلى النادي كل سبت، ولن يعلمك لامتحان الانجليزية أو يساعدك في واجباتك، لكنه حتما سيظل ذكرى طيبة تتفيأون ظلالها وسيبقى فخرا يسند ظهركم ويشد عضدكم.. فهكذا هم الشهداء يا ابنتي، أحياء بيننا لكننا لا نراهم إلا إذا دققنا النظر. 
عرفت والدك الشهيد فادي يوم كنا طلابا في الجامعة الإسلامية بغزة، من خلال الأندية الطلابية التخصصية وقد شكلت ظهيرا لعملنا في مجلس الطلاب في الجامعة، فكان ناشطا في النادي الهندسي، متفانيا في خدمة الطلبة، متفوقا في دراسته، محبوبا من مدرسيه وزملائه، ثم حصل على الماجستير بتفوق كعادته. 
تعززت صداقتي به يوم جئت إلى ماليزيا، إذ سبقني إليها بعد محاولات مع السفر وعذاباته، ليلتحق ببرنامج الدكتوراة وينطلق في رحلة التميز، وقد اختاره مشرفه ليكون باحثا مساعدا له منذ أيامه الأولى في رحلة الدكتوراة، وكم عهدته أثناء تلك الفترة منطلقا إلى معمله بعد الفجر مباشرة ولا يعود إلا بعد المغرب، مخلصا مجتهدا، فكانت ثمرة اجتهاده ما اشتهر به رحمه الله من إنتاج علمي رصين، ومشاركات علمية في شرق الأرض وغربها، ومنحة خصصت للمتميزين، ومراتب أولى في مسابقات عدة، وجوائز الإنجاز التي كللت مسيرته العلمية. شكلت حالته محل فخر وإشادة وصار نموذجا قدوة، العالم الشاب الملتزم الخلوق المحبوب المثابر العصامي، لم يضن بعلمه على الآخرين، بل يساعدهم، كان واثقا بالعقل الفلسطيني وقدرته، يحلم بيوم تتحرر فيه فلسطين ويصبح لدينا مختبرات كالتي يعمل فيها في غربته. 
بعد تخرجه، عمل محاضرا جامعيا، مجدا مخلصا في عمله، وقد أخبرني قبيل استشهاده عن تقييمه المرتفع كمحاضر جامعي، وسرور عميد الكلية بذلك، وتمسكه به محاضرا جامعيا. استمر في أبحاثه تطويرا ونشرا، فكان أمامه مستقبل علمي يزداد رحابة وتقدما مع الأيام، غير أن يد الاحتلال الغادرة قد طالته قبل أن يكمل مشاريعه وأبحاثه، لقد خبروا فيه عالما وطنيا فذا، فخافوا منه وخشوا من عقله، غدروا به فقتلوه أمام سكنه في طريقه إلى بيت ربه فجرا، وقد كان يحضر نفسه للسفر في ذلك اليوم لرئاسة مؤتمر علمي يبحث في تقنيات توفر حياة أفضل وأكثر أمنا للناس، لا تتعجبي يا ابنتي فهذا الاحتلال الذي قتله، لا يحتمل أن يرى الفلسطيني إلا ميتا ولو بعد سبعين سنة من نكبته. 
أولادي دعاء وأسيل ومحمد،،، 
في غربته، كان والدكم ابن فلسطين البار، وسفيرا مخلصا لقضيتها، يشارك في المناشط ويبذل من وقته وجهده لذلك، يدافع عنها ويعرف بها وبعدالتها، كان عضوا في حركة المقاطعة الماليزية BDS، ومتطوعا في هيئة ماليزية لإعمار غزة، وإماما مع المؤسسات الماليزية العاملة لفلسطين، لا يتأخر عن ذلك ولا يمل، ينطلق في عمله لفسطين من الإسلام وإليه يعود. لم تشغله نجاحاته واهتماماته العلمية يوما عنها ولا عن حلم عودة قريبة إليها، فكم أخذنا الحديث عن ذكرياتها وبركتها وجهادها وقضيتها، وكم رسمنا من يوم نعود فيه إليها فنروي ظمأنا منها. 
وهبه الله حفظا مبكرا للقرآن الكريم فما فتر يحافظ عليه ويتعاهده مراجعة وتلاوة بصوته العذب وإتقانه المعهود، ثم حصل على السند بروايتي شعبة وحفص عن عاصم أثناء دراسته في ماليزيا. حرص الماليزيون على دعوته ليكون إماما لهم في عدد من المناسبات أو مساجد الحي الذي نعيش فيه، وحتى خارج المدينة مما يستدعي السفر ساعات طوال، فكان نعم الإمام الذي يلتزم بمواعديه ويبعث في نفوس من خلفه راحة واتصالا بآيات الله عزوجل. وكم من مرات ينبهنا أنه سيغادر هذا الجمع أو تلك الصحبة معللا "عندي إمامة ولابد أن أكون في الموعد"، ولم يتوقف عن القرب من القرآن بالحفظ، بل كان محفظا للقرآن، ويوم عمل محاضرا جامعيا لم يترك هذه البركة تفوته، حتى يوم استشهاده.. 
انعكس القرآن الكريم على خلقه وشكَّل سمته، فكان لطيفا طيبا خلوقا بشوشا، محبا للناس قريبا منهم متواضعا لهم، لا يحمل الشر ولا يسعى إلا في الخير، لا يتأخر عن خدمتهم، منظما لوقته دقيقا بمواعيده ملتزما بما عليه، فرغم كل انشغالاته وامتلاء ليله ونهاره لا يتأخر عن زيارة واجبة أو مناسبة طارئة، وكأن الله قد بارك في وقته فضاعفه، لا يبخل على الآخرين بجهده أو وقته أو ماله، بارا بوالديه دائم الاتصال بهما ممتنا لهما يذكرهما بالخير والدعاء. 
أولادي،، 
قدم فادي إلى ماليزيا مع أمكم قبل سبع من السنين، وهناك وهبه الله طفلتيه دعاء وأسيل، ثم أسعد قلبه بمحمد قبل عام ونصف، قد أحبكم والدكم، ومنحكم قلبه وعاطفته ورعايته، ولا زلت أذكر يوم ذهبنا لدفع الرسوم المدرسية لك يا دعاء، وقد كانت الرسوم عالية عليه وربما فاقت رسوم تخصصات جامعية، استدان ودفعها مبتسما كعادته، وقال لي: "إن والدي قد أنفق أمواله في تعليمي وإخوتي، وأنا سأفعل ذلك مع أبنائي بإذن الله". كان والدكم يحلم بيوم تعودون فيه عائلة إلى فلسطين، أصدقك، كم ضحكنا ونحن نتخيل عودة أبنائنا إلى الوطن وكم من مفارقات سيقعون فيها. حدثني يوما كيف سيكون والديه في انتظاره وأطفاله الذين ولدوا بعيدا عنهم وحرموا من احتضانهم هذه المدة الطويلة، ستعودين يا دعاء وإخوتك دون والدكم، سيحتضنكم جدكم دونه، أكرر يا بنيتي: إنه الاحتلال. 
لم يكن استشهاد والدك خبرا عاديا بل كان صدمة لجميع من عرفوه وأحبوه، بكينا عليه كثيرا وتألمنا لاستشهاده، ذبحنا فقده، تقاطر الناس من جميع الجنسيات إلى المسجد الذي اعتاد الإمامة فيه يتلمسون خبره ويبكون استشهاده ويتذكرون سيرته وحميد خصاله، نعته المؤسسات الماليزية والوطنية ببيانات تفيض حبا وتقديرا. في المستشفى، بانتظار اجراءات إعادته إلى وطنه، جاء أصدقاؤه وطلابه ومحبوه وإخوانه يبكون فراقه ويرومون نظرة أخيرة إلى وجهه المضيء بنور الشهادة وفيوض القرآن، لمسنا حبه في قلوب الناس ومدحهم له والثناء عليه، يتصلون بنا يبكون ويعزون ويثنون عليه، كان والدكم ربانيا قرآنيا أحبه الله فأسكن حبه في قلوب العباد، اختلفت ألسنتهم وألوانهم واتفقت قلوبهم على حبه. 
رحمك الله يا فادي واسكنك فسيح جنانه ...
تاريخ الاضافة: 24-04-2018
طباعة