في مخيم تل الزعتر.. شهداء ينتظرون حريةً "مدفوعة الثمن"!


على حافّة حائط مصنعٍ قديم زُرِعت فوقه شتلاتٌ منزلية ومنشر غسيل، لا أحد يعلم أنّ تحت هذه الأرض شهداء!

شهداءٌ سقطوا أثناء مجزرة مخيم تل الزعتر عام 1976، تلك المجزرة التي استشهد فيها الآلاف واعتقل فيها من اعتقل، ومنهم من لا يزال مصيره مفقوداً بعد نحو 40 عاما!

فبعد انتهاء المجزرة والانتهاء من سكان تل الزعتر إما قتلًا أو تشريدًا من قبل الأحزاب اليمينية اللبنانية، قامت الجرافات التابعة للقوات اللبنانية بتسوية المخيم بالأرض والقضاء عليه تمامًا. حتى لم تُعرف قبور مئات الشهداء الذين دُفنوا في أرض المخيم، حتى الآن!

وبعد أن مرّت عشرات الأيام على المذبحة جاء من يعرض على العائلات الفلسطينية التي فقَدَتْ أحد أفرادها ودُفن في مخيم تل الزعتر أن يُنقل جثمانه إلى مقابر أخرى خارج المخيم حتى تتمكن عائلته من زيارته باستمرار.. أو في الحقيقة حتى ترتاح جثامين أولئك اللاجئين في قبورٍ يُعرفون من خلالها بدل أن يكونوا طيّ النسيان تحت تراب مخيمٍ كان يُقال عنه يوماً مخيم فلسطينيّ!

رواياتُ ما بعد المذبحة..
شهود نكبة تل الزعتر لا تزال ذاكرتهم على قيد الحياة، ولا تزال الحقيقة تصدحُ في مخيلتهم وأنّى لها أن تغيب مع تلك الحقيقة المفجعة التي وُصم بها تاريخ الجماعات اللبنانية المتطرفة على مرّ الأيام..

شبكة العودة الإخبارية تسليطاً للضوء وبحثاً عن هذا الموضوع الجديد فيما يتعلّق بحقائق مجزرة تل الزعتر المسكوت عنها، تلتقي بعض شهود المذبحة الذين كان لهم تجارب أليمة إبّان الاجتياح.

يروي الحاج محمد علي لشبكتنا قصة استشهاد عمّه وسلسلة الأحداث التي حفظها في ذاكرته لتكون شاهداً على المذبحة. يقول وهو يسرح في مخيلته «كان عمّي خارجاً من البيت متوجهاً إلى الدكان، فأصيب برصاصة قناص برأسه.. شاهدته وهم يحملونه إلى المستوصف، لا أدري وقتها كم أردت أن أصرخ اتركوه هذا عمّي! فوراً لحقت بهم كالبرق لأجده على الأرض يحتضر.»

كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى وحرارة تموز من حوله تشتعل، ليشتعل معها القهر والرغبة في الانتقام والثأر في قلوبنا..

وُضع جثمانه في كيس نايلون، وحمله بضعة رجالٍ ودفنوه في عمق لا يتجاوز المتر كحال معظم شهداء تل الزعتر. دفنوه في أرض صغيرة خلف أحد المصانع، لتجد الآن فوق قبره زُرعت شتلات منزلية ومنشر غسيل، ولا أحد يدري بالحقيقة!

تقول ريما ابنة الشهيد، «خرجت من تل الزعتر وأنا ابنة 11 عاماً، لا أزال أذكر عندما أسكنونا في الدامور يومها. وبعد شهر من إبادة المخيم جاء من يعرض علينا أن نأتي بجثمان والدي مقابل مبلغ 1000 ليرة لبنانية، كما عرضوا على غيرنا وقد علمنا أنّهم نجحوا في هذه المهمة».

رغم صغر سنّ ريما في ذلك الوقت إلّا أنّها كانت تشعر أنّها على قيد الحياة منذ مئة سنة، فالهمّ والقتل والتشريد كانت كفيلةً بأن تجعلها أكبُر من عمرها بأعمار، كآلاف أطفال تل الزعتر!

تضيف ريما «طرحتُ الفكرة على أمي لكنها فزعت منها بسبب فقدنا لأكثر من فرد من العائلة في المجزرة، ولا تريد أن تفقد من تبقى صدفةً على قيد الحياة! فالمبلغ عُرض علينا وعلى الكثير من العائلات المكلومة عبر وسيط مقبول من الجهات التي أسقطت تل الزعتر كالكتائب والأحرار وبعض الجنود السوريين.

ريما التي شهدت استشهاد والدها تذكر أين يقع قبر والدها بالضبط، هذا ما جعل فكرة استعادة الجثمان لا تفارقها، ودائماً ما تقول "سأسترجع جثمان والدي وقتما تسنح لي الفرصة ما دمت على قيد الحياة".

جثامين "مدفوعة الثمن"!
في مخيم تل الزعتر وُلدت قصصٌ یختلط فيها الإنساني، بالشخصي، بالسیاسي في مجزرة مسكوت عنها، في بلدٍ شهد حرباً أهلية طاحنة في يومٍ من الأيام..

فبعد نحو ثلاثة أشهر من سقوط مخيم تل الزعتر سمعت أم وائل الأسعد بموضوع إمكانية استخراج الجثث من المخيم ودفنها في مقابر أخرى بعد أن كان ذلك حلماً صعب المنال.

تقول أم وائل لشبكتنا «ذهبتُ أنا وأم محمد الدوخي إلى القوات السورية التي كانت تتمركز بالقرب من تل الزعتر وأخبرتهم أننا هنا بصدد استخراج جثمان زوجي، قلتها والثقة الكاملة تعتريني. فطلبوا مني مبلغاً من المال نظير تأمين وصولنا، وبالفعل قمت بإعطائهم مبلغاً لا أذكره بالضبط وقاموا بالسماح لي بالدخول إلى المخيم.

حينما وصلتُ لم أجد ما يستطيع أن يصف شعوري فالدّمار كان سيّد المكان، وجدت معظم البيوت مهدومة، وكان بيت العائلة الذي تزوجت وأنجبت فيه وقضيت أيام الحصار الجائر محتميةً تحت سقفه، وجدته محترقاً بالكامل! فاحترق معه ما تبقى من قلبي!

هناك وجدت أم وائل شخصاً يدعى حيدر إبن أبو نمر دحنون من قرية هونين الفلسطينية، وهو صديق حميم للباش مارون وكان عميلاً للكتائب، حيث سهّل المهمّة وقام بمساعدتها في استخراج الجثة. وبينما كانوا هناك جاءت مجموعة من الكتائب اللبنانية وسألوهم عن سبب تواجدهم هنا، فقالت أم وائل «أجبتهم بأنني أريد استخراج جثة زوجي، فقالوا لي "تريدين استخراج جثة زوجك أم تريدين استخراج المال و الذهب"، فقالت لهم "انتظروا وستشاهدون بأعينكم! وفعلاً حينما بدأت باستخراج الجثة غادروا المكان!».

حملت أم وائل الجثة معها كأنها تحمل كنزاً ثميناً، وقالت «كم تألّمنا وذقنا المرّ منذ أن بدأ مسلسل النكبة، من قال أننا سنصل إلى يومٍ ندفع فيه لنحصل حتى على جثمان أحبائنا الذين قضوا بغير ذنبٍ اقترفوه!».

تلك القصص تكرّرت في أكثر من عائلة فلسطينية، استخرجت جثامين أقاربها من تل الزعتر وقامت بدفنها في المقابر القريبة من مكان إقامتها، حتى أنّ هناك مقبرة جماعية لشهداء تل الزعتر في مقبرة الشهداء في منطقة شاتيلا، دُفنوا هناك سويّةً ليبقى ذلك التجاور الأبديّ دليلاً على البطش الذي ذاقه لاجئو مخيم تل الزعتر المنكوب..

ومع بلوغ المذبحة الـ 40 عاماً، لا بدّ لكلّ من لا يزال لديه شهيد تحت تراب تل الزعتر مفقودٌ أو معروف المكان أن يُطالِبَ بأعلى صوته لاستعادة الجثمان.. فأربعون عاماً من الضياع والتعب والذلّ كفيلةً بأن ترهق جثمان ميتٍ، فما بالكم بروح لاجئٍ على قيد الحياة!!

المصدر: هبة الجنداوي- العودة
تاريخ الاضافة: 18-08-2016
طباعة