«إنسان».. لفلسطينيّ مجرّد من الحقّ بالحياة


بخطواتٍ سريعة يدخل الغرفة. بين يديه، صينيّةٌ بيضاء. وهو يقدّم فناجين القهوة لا ترتجف يداه. لا يتحاشى النّظر في عيون الضّيوف. يُدرك جيّدًا أنّ تواصل العينين جزءٌ أساسيٌّ من العلاج. لا ينتظر أمرًا بمغادرة الغرفة. يُنهي جولة تقديم القهوة. يرفع يده مستأذناً. وبملح البصر، تراه في الضّفّة الأخرى من المكان.

يخرج عماد فيدخل وجدي. هذا لا يهوى الجلوس وحيدًا مدّةً طويلة. يُفضّل التّماهي مع الآخرين. يختار الكنبة المواجهة. كزميله، يختار لغة العيون. يُنصت كثيراً لما يدور من كلام. ينتظر تسلسل الحديث. يعلم أنّ العبارات تدور حول «الحالة». ولأنّ أحداً لن يُدرك معنى المرض كما يُدرك هو، يُقرّر المشاركة عبر ابتساماتٍ متقطّعة، إيماءاتٍ مُختصرة، تقطيب حاجبين في الوقت الملائم. وعلى الدّوام، تواصل العيون حاضرٌ.

تتوجّه عيون الضّيوف نحو سامي. شابٌّ صغير، يحملُ قارورة ماء. ينفث من بين شفتيه دخان سيجارة. سامي لا يكترث كثيرًا للجالسين. يُلقي سلاماً سريعاً. يفتح باباً حديديّاً قاسياً. ويخرج لتعبئة ما يحمل بين يديه. على عكس حشريّة الوافدين الجدد إلى المكان، لا يلتفتُ أصحاب «إنسان» (مركزٌ لمعالجة إدمان المخدّرات) إلى خروج ودخول القاطنين فيه. اعتادوا الأمر لدرجة عدم الاكتراث، الاهتمام، أو حتّى الالتفات.

إنسان..
يُدرك الفلسطينيّ جيّداً «غياب السّند». داخليّاً، خارجيّاً، الأمر سيّان. لم يعد الفلسطينيّ يُشكّل عامل جذبٍ لـ «الأجانب». وما الخناق الّذي تُمارسه «وكالة غوث وتشغيل اللّاجئين الفلسطينيّين» (الأونروا)، وسياستُها القاتلة، المدعومة بغطاءٍ سياسيٍّ مفضوح، سوى خير دليلٍ على هذا التّقاعس. للإنصاف، يقتصر الأمر على حالاتٍ فرديّة. أو مؤسّساتٍ لا تزال تُمارس إنسانيّتها. «الأهليّة بالمحلّيّة» ليست أشفى حالاً. وإذا كانت خطيئة الغرباء بألف خطيئة. فذنب أبناء الأرض غير قابلٍ للغفران.

مع الدّولة اللّبنانيّة يكتمل الخناق. في بلاد الشّتات العربيّ كان للفلسطينيّ الحقّ في العيش كإنسان. كان يُمكن له التّعلّم، العمل، له حقوق، عليه واجبات. ولكن هنا، في أرضنا، الأمور مختلفة. هنا، ممنوعٌ على الفلسطينيّ أن يكون إنساناً. ممنوعٌ عليه التّملّك. ممنوعٌ عليه مزاولة اثنتين وسبعين مهنة. ببساطة، ممنوعٌ عليه العيش. تختلف الأسباب لتتّفق في شيءٍ واحد: الذّرائع الواهية، و «ردحيّتها» التّوطين.

انطلاقاً من هنا، من عدم «أنسنة الفلسطينيّ» في عيون الآخرين، أو في عيون بعض أبناء جلدته، جاء القرار: فلنعتمِد على أنفسنا.

«إنسان» عنوانٌ عريضٌ لهذه العزيمة. في العام 2013، وعى اثنان من أبناء مخيّم البرج لا جدوى الخطط المُعتمدة لمكافحة المخدّرات. لفترةٍ ليست بالقليلة، كان العمل يتمّ وفق الآليّة الآتية: توقيف مدمني المخدّرات ومروّجيها داخل المخيّم، بالتّعاون مع اللّجنة الأمنيّة المشتركة، لمدّةٍ قد تصل إلى 15 يومًا. خلال هذه الفترة، لا يخضع الموقوفون لأيّ نوعٍ من العلاج. كان الأمر يُشبه «فركة الأذن». ولأنّ «الفركة» لا تنفع، ولأنّ الدّعم منقوص، ولأنّ حياة الفلسطينيّ من عدمها خارج الاهتمام، ولأنّ لا مناص من «عصاميّة» تلبية الحاجات، كان لا بدّ من خطّةٍ بديلة، ومستعجلة.

«سنفتتح مركزاً لمعالجة الإدمان». طرحُ الفكرة لم يكن بالسّهل اليسير. لكنّ وضع المخيّم يستحقّ التّجربة، والمجازفة. في مشهد اللّجوء الفلسطينيّ، الأمر ليس عابراً.

عالمٌ آخر!
هنا عالمٌ آخر. هنا جمالٌ مسروقٌ من أروقة المخيّم. بكلّ ما تحويه الكلمة من معنى، يستمدّ مدمنو المخدّرات إرادةً سُلبت منهم في أماكن أخرى. من غرفة زينكو صغيرة خرج مركزٌ يقطع الشّكّ باليقين: لأبنائنا عزيمةٌ قد لا توجد في الخارج. لأبنائنا رغبةٌ بالتّغيير، فقط أمّنوا لنا أرضيّةً لذلك.

بعد ثلاث سنوات على «نهضة غرفة برج البراجنة»، تغيّر المشهد. بإيقاعٍ بطيء، كانت الأمور تتبدّل. من مدمنٍ واحدٍ على المخدّرات، إلى أكثر من عشرين مريضاً. ومن شبه غرفةٍ، إلى سبع غرفٍ مع حديقةٍ صغيرةٍ. بالمناسبة، بوجود حديقةٍ صغيرةٍ داخل مخيّمٍ للاجئين الفلسطينيّين بلبنان نوعٌ من السّورياليّة.

يُريدون التّخلّص من الآلام..
هنا تألّم عماد كثيراً. مرحلة الفطام كانت الأصعب عليه. قراره بالتّوقّف عن تناول المخدّر كان جريئاً وبحاجةٍ إلى متابعة.

بعد أن سمع ضحكاتٍ مرتفعة خلال النّقاش، يقرّر الانضمام مجدّداً. سرعان ما يندمج في الحديث. يبتسم وهو يروي سيرة إدمانه. في ذلك نوعٌ من الاستهزاء بالمرض.

- «بدّي لاقي الحضن». تكفي هذه العبارة لفهم حاجاتٍ تعتري مدمن المخدّرات. يتحدّث عماد عن البدايات «بدأ الأمر بسيجارة حشيش، تطوّر إلى الحبوب». لسببٍ غير واضح، يتحاشى ذكر الأسماء. منذ ثلاثة أشهر يقبع الشّابّ في المركز. على الإطلاق، لم تكن مدّة العلاج سهلة. لكن الإرادة الّتي امتلكها الشابّ، وزملاؤه، جعلت العسير يسيراً.

ما بعد مرحلة الحبوب كان التّحدّي الأصعب. لم يعد الأمر ينقضي بجرعةٍ مُعتادة. بدأت سياسة زيادة الجرعات، وتطوّرت معها الحالة. قطع عماد مرحلة الشّعور بالنّشوة ليدخل مرحلةً جديدة: التّعاطي للتّخلّص من الآلام. يظنّ المُدمن أنّ في الأمر تسلية. لكنّه سرعان ما يدخل الشّرَك. يبدأ البحث عن مخلّص. كلّ مَن يتعاطى المخدّرات، يصل إلى مرحلة طلب يدِ المساعدة.

سفّ الحبوب والإبر. هكذا قضى عماد السّنوات السّبع الأخيرة من حياته. وضعه الماليّ الصّعب قاده لا إراديّاً إلى التّرويج. يتوجّه إلى تاجر المخدّرات (ع. ز.) في بعلبك. يشتري منه البضاعة اللّازمة. يذهب إلى المخيّم. يبيع بضاعته إلى الفلسطينيّين واللّبنانيّين على حدٍّ سواء. وبالمال الّذي يحوز عليه، يشتري بضاعته الخاصّة.

بعد جولاتٍ وصولات فاشلة على مراكز علاج المخدّرات في لبنان، اتّخذ قراراً بالعودة إلى المخيّم. ليس إلى غرف التّعاطي المُغلقة، بل إلى «إنسان».

تركيز وجدي في الحديث يتفوّق على كلامه. ليس سهلاً على من قضى ثلاثين عاماً في عالم المخدّرات أن ينسى كلّ شيء ويمضي. لم ييأس الرّجل. تناسى محاولاتٍ فاشلة من العلاج الشّخصيّ. ذاك العلاج الّذي اعتمده بنفسه داخل غرفته. حمل جعبته ودخل عالم المركز.

الاندماج هو الأساس
لـ «إنسان» خصوصيّة. ينبع ذلك من خصوصيّة التّعاطي مع الفلسطينيّين وقاطني المخيّم من غير اللّبنانيّين. لا انسلاخ عن البيئة. منذ البداية يؤمن القيّمون على المركز بهذا المبدأ. كان صعباً على عماد الابتعاد عن محيطه. بالنّسبة إليه، كان الانسلاخ عن مكان سكنه سبباً في فشل علاجه داخل المراكز السّابقة. هناك، كان يقول كلاماً غير مفهومٍ للمحيطين. «معالجتي النّفسيّة تستيقظ على صوت العصافير وأنا أستيقظ على صوت الجيران»، كيف يُمكن أن تفهم ما يُعانيه ابن المخيّم؟

الانفراد الّذي يعتمده المركز ينعكس كذلك على الأسلوب. لا أبوابَ تُقفل. أتيتَ بإرادتك، فلتذهب بإرادتك. هنا عليكَ أن تعمل في الخارج كي تشعر بقيمة اللّيرة. هنا أغنياء، فقراء، والكلّ يعمل. إلّا من يملك وضعاً صحّيّاً حرجاً أو مَن يبحث عن عمل.

«نمر النّمر، أحد مؤسّسي المركز، يعطيني خمسة آلاف ليرة، ويحتفظ بالألف بالباقية لابنته، كيف لي أن أخون معاناته معي»؟ يقول سمير. الشّابّ الثّلاثينيّ هو أحد اللّبنانيّين الّذين التجؤوا إلى المركز بعد معاناةٍ كبيرةٍ مع مراكز في الخارج (تُنشَر قصّة خاصّة عن سمير في مقالٍ منفصل).

«نعتمد الطّريقة الصّوفيّة في العلاج». يفتخر النّمر أثناء حديثه عن الطّرق المعتمدة. لا يغوص كثيراً في التّفاصيل. يؤكّد الابتعاد الكامل عن الأدوية، مشيراً إلى الاتّكال على البدائل الطّبيعيّة.

يدعم «أطبّاء بلا حدود» المركز عبر ثلاثة أطبّاء. يصف النّمر المؤسّسة بـ «الشّعلة المضيئة».

على الرّغم من عدم تلقّي «إنسان» أي دعم مادّي، استطاع عرض نموذج علاج يستحقّ التّأمّل: عائلة واحدة، مرضى يعملون، يخرجون، يدخلون، يتواصلون مع المحيط، ينحدرون من محيطٍ يُشكّل بيئةً خصبةً لتنامي المدمنين والمروّجين (سعر إبرة الهيروين داخل المخيّم أرخص من الخارج)، يدخّنون السّجائر، يجهّزون بأيديهم المكان، والأهمّ يملكون الإرادة.

في مخيّمٍ يعوز إلى أدنى أشكال الاهتمام، على كافّة المستويات، يُشكّل الحديث عن عددٍ قليلٍ جدّاً من مدمني الهيروين نافذة أمل. وفي بيئةٍ تحتاج إلى أدنى معايير الالتفات، يُشكّل المركز الوحيد لعلاج الإدمان من المخدّرات في مخيّمات اللّجوء الفلسطينيّ كافّة في العالم العربيّ حكايةً كبيرة.

هنا فلسطينيّون يقرعون باباً أُغلق في وجههم منذ زمن. يقفون على الجهة الأخرى منه ويصرخون: نحن هنا، لدينا احتياجات، عاملونا كبشر، اقتلعوا جذور ضياع مجتمعنا، فمجتمعكم. ما يسري علينا يسري عليكم. ما يفيدنا يفيدكم، وما يضرّنا يضرّكم. مدمنونا بحاجة إلى رعايةٍ كذلك.

وبعد مدّةٍ ليست بقليلة، يفتح سامي الباب، يُعيد إلقاء السّلام، ويتوجّه حاملاً جرّة ماءٍ ممتلئة إلى غرفته.

ملاحظة: أسماء المرضى المُعتمدة في النّصّ مستعارة، ما عدا سمير، حفاظاً على خصوصيّة أصحابها.

المصدر: زينب سرور - السفير
تاريخ الاضافة: 16-04-2016
طباعة