« المفكر المقدسي بندلي صليبا الجوزي (1871-1942م) »






المفكر المقدسي بندلي صليبا الجوزي

رائد البحث العلمي الاجتماعي والدراسات التراثية العربية – الإسلامية في فلسطين
بقلم أوس داوود يعقوب/ خاص بمؤسسة القدس للثقافة والتراث
لمع نجم الدكتور بندلي صليبا الجوزي (1871-1942)"1" في النصف الأول من القرن العشرين كعلم من أعلام الاستشراق واللغات السامية في روسيا، واشتهر كمؤرخ عربي كبير، وباحث لغوي تولى كرسي العربية في جامعة قازان حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ."2"
وهو من رعيل الفلسطينيين الأوائل من حملة مشاعل الأدب والفكر، له الكثير من الأبحاث والدراسات. وقد تصدى للمستشرقين، وانتقد قصر نظرهم وتعصبهم. خدم العربية في حركة «الاستشراق» خدمات ثمينة. ويصفه المستشرقون بأنه كان مرجعًا خصبًا من مراجعهم. واسمه عند الإفرنج (Pandéli)  .

وقد زار فلسطين ثلاث مرات، وقدم العديد من المحاضرات في منتدياتها المختلفة. ونبّه الفلسطينيين إلى الأخطار المحدقة بهم، والمحاولات التي كانت تقوم بها حكومة الاحتلال البريطاني من أجل تهويد فلسطين وطرد أهلها.

الميلاد والنشأة:
وُلِد (بندلي) "4" في مدينة القدس في 2 تمّوز (يوليو) 1871م. وقد توفيت والدته في أثناء الوضع، وتوفي والده، وكان يعمل نجارًا، بينما كان (بندلي) في السادسة من عمره "5". لذلك فإن العائلة المؤلفة من أخواته الثلاث، وصليبا الذي يكبره سنًا، قاموا بالعناية به وتنشئته.
تقول أخته مريم التي عاشت أكثر من مئة عام : «إن طفولة بندلي كانت هادئة على وجه العموم. ولكنه عندما أصبح قادرًا على المشي، كان يحب اللعب والركض. وفي العاشرة أو أقل بقليل، كان يعتزل رفاقه، ويخرج إلى سطح الدار التي تطل على أسوار القدس القديمة، وينتحي ناحية قصية أو يستمتع بقراءة القصص التي كانت رائجة في تلك الأيام، كما كان يحب أن يسهر ليلاً ليتأمل ويفكر».
تلقى (بندلي) علومه الابتدائية وقِسْمًا من دراسته الثانوية في دير «الإشارة» الصليبي المعروف بـ«دير المصلبة» الأرثوذكسية في القسم الغربي من القدس، وهو دير يوناني أرثوذكسي. ومنه قصد مدرسة «قفطين» الأرثودكسية، (من أعمال طرابلس الشام). وتمكّن من اللغة العربية وهو في السابعة عشرة من عمره.
ونظرًا لتفوقه في الدراسة الثانوية أُرسِل عام 1891م لاستكمال علومه الدينية في الأكاديمية الدينية في موسكو. لدراسة اللاهوت ليتخرج كاهنًا. ولكنه عدل عن ذلك بعد أن درس اللاهوت في موسكو ثلاث سنوات، ولم يرغب في الاستمرار هناك، فانتقل عام 1895م إلى «أكاديمية قازان» لدراسة الدراسات العربية والإسلامية واللغات السامية، وحصل منها على درجة الماجيستير في اللغة العربية والدراسات الإسلامية سنة 1899م. وكان موضوع أطروحته «المعتزلة، البحث الكلامي التاريخي في الإسلام».
يقول الأستاذ صقر أبو فخر: «عاش (بندلي) غريباً في بلاد بعيدة، ولعل ارثوذكسيته ساهمت في تلطيف أوجاع الغربة، لكنه ما كاد ينال درجة الأستاذية في بلاد الموسكوب حتى وقعت ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1917م، فعاش غربة مزدوجة في إطار النظام الشيوعي الجديد، ولا سيما أنه لم يكن شيوعياً بل ليبرالي التفكير وأرثوذكسي العقيدة. ولهذا لم يتمكن من التلاؤم كثيراً مع الأفكار الاشتراكية إلا في سياق فكرة العدالة الاجتماعية، وفي ميدان التخلص من اللاهوت التقليدي، وإخضاع الروايات الدينية للنقد التاريخي»"6" .
و«كان بندلي جوزي غساني الأصول وعروبي النزعة. وأرثوذكس فلسطين، خلافاً للبعض، لم يطلبوا الحماية الروسية على الإطلاق، بل تطلعوا إلى دولة عربية قومية يتساوى فيها جميع المواطنين، ورأوا أن القضية القومية تتقدم، في الأولوية، على المسألة الدينية. وبناء على هذا التطلع، ثار الأرثوذكس على كهنة الكنيسة اليونانيين، ودعوا إلى تعريب كنيستهم وهي العربية أصلا، وطالبوا المسلمين باسترداد الخلافة من الأتراك. ولمع في هذه «الثورة» خليل السكاكيني الذي كان فريدًا في غضبه، وجريئًا في عرض أفكاره، ونادرًا بين المفكرين النقديين في فلسطين» "7".
عاد (بندلي) إلى القدس عام 1900م ليبقى فيها، وأخذ ينبه الناس ويقول لهم: «أفيقوا من هذا السبات الذي تغطون فيه، ودافعوا عن حقوقكم المهضومة وحريتكم»، وبدأ ينشر أفكارًا تحررية،. ويهيب بالناس أن يكسروا القيود التي تكبلهم، ويثوروا ضد الظلم والقوى الرجعية الحاكمة. مما حدا بالسلطات العثمانية الحاكمة، أن تجبره على مغادرة القدس الشريف والعودة إلى روسيا.
ولدى عودته عمل في السمنار الروسي وفي الأكاديمية الروحية بمدينة قازان. وفي عام 1903م تزوّج من فتاة روسية تدعى (ليودميلا لورنيشيتفنا زويفا)"8" ، المولودة في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1880م، والمتوفاة في الثلاثين من شهر حزيران (يونيو) 1931م في مدينة باكو"9" ، ورُزق منها سبعة أبناء، ثلاثة ذكورًا وأربع بنات
نضاله في القدس ضد التخلف والاستبداد ..

عاد (بندلي) إلى الشرق الأدنى عام 1909م في بعثة علمية لمدة عام كامل أشرف خلالها على رحلة الطلبة الروس إلى فلسطين.
ويشير الدكتور عادل مناع في كتابه «أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني (1800-1918م)»،  إلى رحلة (بندلي) تلك أنه تعرّف إلى الكثيرين من أدباء فلسطين في ذلك العهد، ومنهم إسعاف النشاشيبي وجميل الخالديّ، وخليل السكاكيني. كما تعرف في بيروت إلى المستشرق الروسي (كراتشكوفسكي) الذي أوقف حياته على البحث والتدقيق في آداب اللغة العربية ."11"
ويذكر الدكتور عبد الرحمن ياغي في كتابه «حياة الأدب الفلسطيني الحديث من أول النهضة ... حتى النكبة» أنه ـ وفقًا لحكاية رواها الكاتب الروسي المعاصر (ثيودورف) في جريدة «ريتش» الروسية ـ فإن (بندلي) التقى (كراتشكوفسكي) مع عدد من أدباء فلسطين في منزله بمدينة القدس: «اجتمعت ببعض أدباء القدس في منزل الخواجا بندلي الجوزي، أستاذ الآداب العربية في كلية قازان: وكان معي الخواجا كراتشكوفسكي المستشرق الروسي، وكان قد جاء الشرق في مهمة علمية فأقام في مصر وسوريا وفلسطين لهذه الغاية سنة ونصف السنة، فأتقن اللغة العربية، وتخلق بأخلاق العرب وعاداتهم. أما الأدباء الذين أشرت إليهم فهم الأستاذ خليل السكاكيني، والشاعر الكاتب إسعاف النشاشيبي، وارستقراطي من سلالة الفاتحين جميل الخالديّ، وكان حديثنا بعضه بالفرنسية وبعضه بالانكليزية وأكثره بالعربية، وكان رفيقي المستشرق وصاحب المنزل يترجمان الحديث. وكنت اسمع وأنا مسرور مرتاح حديث هؤلاء الشبان المتقدين ذكاء وحماسة ووطنية...» . "12"
وفي السنة التي أقام معظمها في فلسطين (1909م) شاهد التأخّر والجهل وظلم السلطات العثمانية والإقطاعيين السائرين في فلكهم، فأخذ ينشر الأفكار التحررية، ويحرض الناس على كسر القيود، والثورة على أوضاعهم.
عاد (بندلي) إلى جامعة قازان بعد انتهاء سنة البعثة، وعمل أستاذًا مساعدًا لمادة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة قازان بين عامي (1911م و1917م). وانتقل بعد ذلك إلى كلية الآداب والتاريخ، وحاضر في تاريخ شعوب الشرق   الأدنى حتى عام 1920م. وفي ذلك العام دعي إلى تولي كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة باكو الدولية، كما أسند إليه كرسي تاريخ الشرق الإسلامي.
وقد أصبح بين سنتي (1930م و 1933م) رئيسًا للقسم العربي من فرع أكاديمية العلوم في أذربيجان.
ولم ينسَ (بندلي) مسقط رأسه، بل عاد لزيارته عام 1927م، ثم في عام 1930م. وقد ألقى خلال زياراته تلك محاضرات قيمة في التاريخ والحركات الفكرية والاجتماعية والفلسفية عند العرب. وفي سنة 1930 أيضًا زار القاهرة مع صديقيه خليل السكاكيني وعادل جبر، فاحتفى بهم أهل الفكر في وادي النيل.
كما زار سورية والعراق وإيران لأغراض علمية



» تاريخ النشر: 20-04-2014
» تاريخ الحفظ:
» رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان
.:: http://palteachers.com/ ::.