خليل السكاكيني (1878- 1953) من رواد التربية والتعليم والأدب في فلسطين

خليل السكاكيني

بقلم : أوس داوود يعقوب*/خاص بمؤسسة القدس للثقافة والتراث
يُعدُّ الأديب والمربي المقدسي خليل قسطندي السكاكيني، من رواد التربية الحديثة في الوطن العربي، اهتم باللغة والثقافة العربية والتربية، الأمر الذي كان له أثر كبير في تعليم عدة أجيال في فلسطين. وهو من طلائع رجالات التربية، الذين كان لهم إسهامات عظيمة في تعزيز روح اليقظة القومية‏.
وهو «واحد من أبرز رجالات عصره في العالم العربي، كان كاتباً، ومناضلاً وطنياً، وصاحب أخلاق عظيمة وعقل راجح.. وكان مركزاً للحياة الثقافية في مدينة القدس.. وكان مؤمناً كثيراً بقيمة التعليم والمعرفة، وقد أسس عدداً من المدارس في فلسطين.. وتوجت خدماته لحقل التعليم بالكثير من الكتب الأساسية التي ألفها لتدرس في المدارس الفلسطينية» (1).
وقد تميز السكاكيني بأنه «إنسان من طراز عال، تميز بأنه مرب من طراز رفيع، وكان هم السكاكيني الأول أن يكون التعليم أولاً وطنياً وثانياً صحيحاً. وكما نعم لبنان بأعلام لغويين أمثال اليازجيين والبستانيين، نعمت فلسطين بالمعلم نخلة زريق الذي غرس في طلابه والسكاكيني في طليعتهم حب لغة الضاد وتقديسها والمغالاة بها وإيثارها على سائر اللغات » (2).
و«كانت حياة السكاكيني أخصب حياة للحس والفكر ممتزجين، وهو رائد كبير من رواد حركة التربية والتعليم في فلسطين، إضافة إلى ريادته في الحركة الأدبية والثقافية وفي كتاباته يجنح إلى الواقع، وتسجيل علاقاته، وتصوير مشكلاته، بأسلوب فيه حلاوة التجديد، وفيه أنسام روح العصر ومقتضيات الزمن» .(3)
وقال عنه الأديب اللبناني المناضل المرحوم عجاج نويهض: «في السكاكيني رجولية وعروبية وفلسفة وعلم وتأليف وخطابة ومنادمة راقية ونكتة بديعة وضحكة تثير الحي كله»، وأضاف: «هو من رجال التربية الحديثة في الأمة العربية» (4).
ولد السكاكيني، في 23 كانون الثاني (يناير) عام 1878م في بيت المقدس (5)، وقد سمي (خليل) على اسم أخيه البكر المتوفى طفلاً. وفي يومياته (كذا أنا يا دنيا)، بتاريخ (23/01/1919م) يرسم (خليل) بعض ملامح طفولته بقوله: «أقدم ما أتذكر من أيام طفولتي أننا كنا نعيش في دارنا داخل المدينة، وكان شعري أحمر بلون شعر سري (ولده) وسلطانة اليوم (زوجته)، وانه كان مرسلاً بحيث كان يضفر شعر البنات، واني كنت سميناً بحيث كنت مع قصري كالكرة أتدحرج تدحرجاً، وإذا كنا نلعب مع إخوتي وأولاد عمي في «حوش» الدار ونملأ الجو بأصواتنا، وقد كنا نسكن سنة في دار، داخل المدينة وسنة في دارنا خارج المدينة».
وفي طفولته أرسله والده قسطندي السكاكيني (6) إلى مدرسة «الروم الأرثوذكس» في القدس، ولكنه تركها للطمة أصابت وجهه من المعلم لغير ذنب ولا علة، ودخل مدرسة أسستها الجمعية «الإنجليكانية التبشيرية» (CMS)، فكان دوما (الأول) بين لداته، و «لم يكن في المدرسة احد أقوى مني جسما، فكنا في أوقات الفراغ نتصارع فكنت أصارع أربعة أو خمسة معا، ولم يكن احد يستطيع أن يزحزح قدمي عن الأرض، ولذلك كنت ذا نفوذ بينهم... وفي عطلة المدرسة الصيفية كنت اشتغل بالنجارة، وكنت محبوباً عند كل من كان يشتغل هناك من بنائين ونجارين وغيرهم، وكنت في يوم السبت، حين يذهب المشتغلون ليقبضوا أجرتهم من رئيس العمل، أتخلف عن الذهاب معهم لأني كنت اخجل أن أقف موقفهم وأمد يدي لأتناول أجرتي. كنت أتلذذ بالعمل في أيام العطلة ولا سيما وقد كنت محبوباً، إما لأني صغير السن سريع الحركة أو لأنهم كانوا يحسنون معاملتي إكراماً لخاطر أبي لأنهم كلهم تلاميذه في صنعة النجارة»(7) .
وكان (خليل) منذ طفولته مولعاً بطائفة من الهوايات، يعددها في يومياته:
-«مما كنت مولعاً به في أيام الصغر تربية الخراف، ففي كل سنة كان يشتري لي أبي خروفاً أو جدياً، فكنت اذهب به بعد المدرسة مع رفاق كثيرين من أترابي ومع كل واحد منا خروف أو جدي إلى الحقول المجاورة نرعاها، فكنا رعاة صغاراً، ما أجمل تلك الأيام».
-«وكذلك كنت مولعاً باقتناء الكلاب، فلم أكن ألقى كلباً صغيراً في الطريق إلا ركضت وراءه حتى أدركه فاحمله وأعتني بتربيته، وأشهر كلابي (فرهود) وكان كبير الجسم جميل الشكل، فلم أكن أذهب إلى محل إلا أخذته معي، وإذا رأيت كلاباً في الطريق أرسلته عليها، فكان يهجم عليها كالأسد، وقد عاش طويلاً ، ولما مات أسفت عليه أسفاً عظيماً».
-«وكنت مولعاً بالماء والنظافة، فلم يكن ألذ عندي وادعى لسروري من أن تدعوني أمي لتحممني. وكنت مولعاً بالصلاة والعبادة وقراءة الإنجيل، وقد بقيت كذلك إلى أن أدركت سن الرجال. ومما أذكره بالفخر والسرور أني كنت من الممتازين بحسن الإخلاص والقوة والخفة والرشاقة، لا تخرج من فمي كلمة سوء أو ألفاظ بذيئة».
-«ثم اتفق أننا سكنا في دارنا خارج السور، وكان عندنا بندقية، فجعلت اجر بأن أتعلم الرماية وحدي، وكم كان سروري عظيماً حين سددت بندقيتي على عصفور فأصبته، ومن ثمة أولعت بالصيد ولعاً عظيماً، فكنت لا اصدق أن انصرف من المدرسة حتى أبادر إلى بندقيتي واحملها  واخرج إلى الحقول المجاورة للصيد».
-«الاستحمام بالماء البارد.. إن لأسلوبي في الحياة باطنا وظاهراً - ظاهره العاب واستحمام واكل وقوة ونشاط ولهو وسرور، وأما باطنه فطهارة قلب وصحة عقل وحرية فكر وسمو نفس ومتانة أخلاق وجمال ذوق وسلامة نية، فإذا اكتفيت بالظاهر فقد أسأت فهمي وهذه آفة الأديان والمذاهب كلها» (8).
وفوق هذه الهوايات كان السكاكيني موسيقياً بارعاً بالعزف على الكمنجة.
وبعد أن تعلم (خليل) في المدرسة «الإنجليكانية» أنتقل إلى مدرسة «صهيون» (9) الإنجليزية في القدس، وكان شقيقه يعقوب قد سبقه إليها، بعدها تابع دراسة الآداب في كلية الشباب (الكلية الانكليزية فيما بعد)، وكان أستاذه وإمامه فيها المعلم نخلة زريق(10) ، وقد تخرج منها عام 1893م.
ليعمل بعدها في التدريس والصحافة(11) ، وفي هذه الفترة انتسب لـ «جمعية زهرة الآداب»(12) ، التي تأسست سنة 1898م برئاسة داوود الصيداوي (13).
وادخر بعض المال للسفر إلى روسيا بتشجيع من صديقه الدكتور بندلي الجوزي ليدرس الطب هناك. وبعد أن حجز مكاناً في الباخرة وحدد له موعد سفرها عدل عن رحلته لمرض والده، فألغى سفره إلى روسيا.
بعد وفاة والده قصد خليل بريطانيا في صيف عام 1906م ليستكمل من فن التربية والتعليم، حيث استمع إلى محاضرات في‏ ‬جامعتي‏ «‬أكسفورد» و«كمبريدج» في‏ ‬موضوع التربية،‏ ومنها عرّج على مصر حيث انكبّ‏ ‬على مطالعة مؤلفات وصحف كان قد حظر دخولها إلى فلسطين‏.
وفي خريف عام 1907م سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأقام في نيويورك ليستزيد من الدرس، ويعمل مع شقيقه يوسف الذي سبقه إلى فيلادلفيا. لكن سوء الحالة الاقتصادية حالت دون نجاحه، فزاول تعليم بعض الطلاب، لكن الأجور التي كان يتقاضاها لم تكف لسد نفقاته، فعمل في محل تجاري، لكن عدم إلمامه بمسك الدفاتر كان سبباً في هجره عمله الجديد. وأثناء وجوده في الولايات المتحدة حرر في مجلة «الجامعة» لصاحبها الكاتب السوري‏ ‬المعروف فرح انطون، لكن الكتابة فيها لم تكتسبه نفقات عيشه. وبوساطة صديقه فرح انطون وجد عملا في أحد معامل بلدة (رومفول فولز) [ Rumfol Falls] لكنه هجر العمل للفارق بين خلقه وأخلاق العمال.
وقد كانت له إسهامات  في كثير من المطبوعات الصادرة في ولايات الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، كما عمل في تعليم اللغة العربية، وقام بالكثير من أعمال الترجمة.
 في صيف عام 1908م، قرأ أن السلطان العثماني عبد الحميد منح البلاد الدستور، فسر بهذا النبأ وعقد الآمال عليه، فقرر العودة بالباخرة عبر فرنسا فبلغ القدس سالماً، وحصيلة ما جناه من هجرته كما يقول: «إن سفري إلى بلاد الإنكليز ثم سفري إلى أميركا وتشربي مبدأ نيتشه الفيلسوف الألماني وغيره من الفلاسفة، والصعوبات التي لقيتها، كل ذلك أحدث فيَّ انقلاباً لم أعهده قبل سنة».
تاريخ الاضافة: 05-04-2014
طباعة