« ما بعد غزة: استقلال أم تحرير؟ »






http://img123.imageshack.us/img123/8143/111vy1.jpg

بقلم: حيدر عيد *
في خضم المماحكات السياسية وتصغير القضية الفلسطينية إلى قضية إحسان يقوم به الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتقديم الأهداف النضالية التحررية إلى قضية إعلان استقلال، أو دولة غير عضو في الأمم المتحدة، قبل تحقيق حق العودة، وحصر هذا (الإنجاز) في مصلحة ثلث الشعب الفلسطيني، يضيع الكثير من أبجديات العمل التحرري والأهداف النضالية.

وفي ظل غياب أي أفق سياسي يعطي أملاً للشعب الفلسطيني في إمكانية التخلص من إسقاطات اتفاقيات أوسلو التي رُفضت بوضوح في انتخابات 2006، وسقوط البديل الذي صُوِّت له في فخ الجدل البيزنطي الأوسلوي بشأن إمكانية إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود 67، يتعين على المخلصين من المثقفين والناشطين السياسيين عدم الوقوع في مستنقع ما يردد بنحو ببغاوي روبوتي عن «إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها عام 48»!

من الواضح الآن لأي ناشط أو محلل سياسي أن هذه المعادلة أصبحت مستحيلة بسبب جمعها بين إقامة الدولة والعودة في الوقت نفسه. لكن مما لا شك فيه، أن حصر القضية الفلسطينية والأهداف النضالية في الجزء الأول من هذه المعادلة، أي إقامة الدولة، بدأ يأخذ أولوية غير مسبوقة، حيث إن الهدف التحرري أصبح ينحصر في النضال من أجل إقامة معزل عرقي «بانتوستان» منزوع السلاح على نمط المعازل الجنوب أفريقية السيئة السمعة التي لم تنل أي اعتراف دولي إلا من إسرائيل. بمعنى آخر، إن الشرخ العمودي في الوعي النضالي الفلسطيني، من خلال تصنيم فكرة الدولة على حساب التحرير وإسقاط حق العودة، من دون الاعتراف بذلك، والتكرار الممل عن «المشروع الوطني الفلسطيني»، بالضرورة يتصادم مع تطلعات الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني من حيث كونهم لاجئين كفل القانون الدولي حق عودتهم.

ومن هنا، أصبح خيار الدولة المستقلة مستحيلاً لأسباب عديدة، منها اتخاذ إسرائيل خطوات عملية على الأرض لإسقاط هذا الخيار من تحويل المستوطنات، بعد توسيعها، إلى مدن وزيادة عدد المستوطنين إلى أكثر من نصف مليون، وبناء جدار الفصل العنصري، وتوسيع القدس الكبرى، وعملية التطهير العرقي الممنهجة فيها، وتحويل القطاع إلى أكبر مركز اعتقال على سطح الكرة الأرضية، بموافقة ومشاركة دولية وعربية... ومن الواضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها قد أصابها فيروس أوسلو بما يتميز به هذا الفيروس من خلق وعي زائف يحول دون النضال التحرري من أجل عودة اللاجئين، وأن القضية هي قضية نضال من أجل حقوق الإنسان والديموقراطية الحقة، إلى قضية «استقلال وطني» محدود السيادة (ومن دون ذكر ذلك طبعاً) وعلم يرفع، ونشيد وطني، وقطعة أرض صغيرة نمارس عليها «سيادة» بلدية، وتفتح وزارات، ولكن كل ذلك بإذن من المحتل!

وعلى الطرف الآخر من المعادلة الفلسطينية، تُطرَح هدنة أحياناً لمدة 10 أعوام وأحياناً أخرى لمدة 20 عاماً. ويجري الجدل على أن هذا هو «البديل» لسقوط الخيار الأول. وعلى الرغم من عدم وجود فوارق جوهرية من حيث مبدأ القبول بحل عنصري وبامتياز للقضية الفلسطينية بين هذين الطرفين، إلا أن التناقض الذي من المفروض أن يكون ثانوياً أصبح بارزاً بنحو أساسي ووُظِّف في خدمة الحل العنصري. لا شك في أن ما يسمى «البديل» الذي يراهن أيضاً على إمكانية المحافظة على هدنة لمدة 20 عاماً والاعتماد على مبدأ أن يقبل هذا الطرح لبراغماتيته المغرية للمجتمع الدولي، في الحقيقة يفتقر إلى رؤية استراتيجية واضحة لحل (الصراع) بطريقة تضمن عودة اللاجئين. ما معنى 20 عاماً من الهدنة؟ أليست هذه رسالة للاجئين بأن يصبروا 20 سنة أخرى حتى تتغير موازين القوى؟ وماذا إذا لم تتغير موازين القوى؟

يضاف إلى ذلك الحديث عن حل الدولتين وجعله الخطاب السياسي السائد، وتحديداً بعد عام 1993، انخراط بعض المثقفين المحسوبين على اليسار تاريخياً، والذين مروا عبر عملية أنجزة بعد حداثية جعلتهم يتحولون اجتماعياً وسياسياً للصف اليميني، وأرغب في تسميتهم «اليسار النيوليبرالي»، في الدفاع عن هذا الحل على أنه الوحيد المتاح في ظل موازين القوى السائدة، والتهديد فقط بطرح حل الدولة الواحدة، مع الخلط بين حل الدولة الديموقراطية وحل الدولة الثنائية القومية، كفزاعة لا لإسرائيل فقط، بل أيضاً لنا سكان الأرض الأصليين. أو أن حل الدولتين لا يزال برنامجاً مرحلياً مناسباً. ما هذه إلا محاولات تدل على سقوط أيديولوجي مدوٍّ في مستنقع تبرير ما لا يمكن تبريره بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والستالينية الجاهزة القوالب، وعدم الإيمان بقوة الشعب والتضامن الدولي الجماهيري في إحداث تغييرات ثورية على نمط ما حصل ضد نظام التفرقة العنصرية.

ومن هذا المنطلق، قُدِّم طلب للجمعية العامة للأمم المتحدة لنيل الاعتراف بدولة فلسطين عضواً غير مراقب. وهذا يقوم على أساس قرار اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية في السبعينيات من القرن الماضي يقضي بتبني البرنامج الأكثر مرونة المتمثل في (حل الدولتين).

يؤكد هذا البرنامج أنه يمكن حل القضية الفلسطينية، جوهرا «الصراع العربي ـــ الإسرائيلي»، من طريق إقامة (دولة مستقلة) في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية. وبموجب هذا البرنامج، سيعود اللاجئون إلى دولة «فلسطين»، لا إلى ديارهم الموجودة في إسرائيل التي تُعرِّف نفسها بأنها «دولة اليهود». غير أن (الاستقلال) لا يتصدى لهذه المسألة ولا يلتفت لنداءات 1.2 مليون فلسطيني مواطن في إسرائيل تدعو إلى تحويل الصراع إلى حركة مناهضة للفصل العنصري، حيث إنهم يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثالثة! ومن المفترض أن يُنفذ هذا كله بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الغربية وغزة. ولكن هل سيكون الانسحاب بمثابة إعادة نشرٍ للقوات وحسب، كما حدث إبان أوسلو؟ ومع ذلك فلا يزال المؤيدون لهذه الاستراتيجية يدّعون أن الاستقلال سيضمن تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية كشعب واحد، وأنه يمكن حل القضية الفلسطينية طبقاً للقانون الدولي، وهو ما سيُلبي الحد الأدنى من الحقوق السياسية والقومية للشعب الفلسطيني. ولننسَ أن لإسرائيل 573 حاجزاً ونقطة تفتيش دائمة منتشرة في الضفة الغربية المحتلة و69 نقطة تفتيش متنقلة؛ ولنتجاهل أيضاً أن المستعمرات القائمة «المقتصرة على اليهود» ضمت أكثر من 54 في المئة من مساحة الضفة الغربية.

والجدير بالتذكير، أن منظمة التحرير الفلسطينية رفضت في يوم من الأيام فكرة «الاستقلال» هذه؛ لأنها لم تلبِّ «الحد الأدنى من الحقوق المشروعة» للشعب الفلسطيني، ولأنها تمثل طرحاً مخالفاً للنضال الفلسطيني الساعي إلى التحرير، لا الاستقلال. إن البديل المقترح لهذه الحقوق هو دولة بالاسم فقط. وبعبارة أخرى، يجب أن يقبل الفلسطينيون استقلالاً تاماً على جزءٍ يسير من أرضهم، وألّا يفكروا أبداً في السيادة على حدودهم أو ضبطها أو في احتياطاتهم المائية، والأهم من ذلك كله، في عودة اللاجئين. فهذا ما يمثله اتفاق أوسلو، وهو أيضاً «إعلان الاستقلال» الذي يروَّج له في أروقة الأمم المتحدة.

والغريب أنّ إعلان الاستقلال هذا لا يَعد حتى بأن يتناغم مع خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة في عام 1947، والتي منحت الفلسطينيين 47 في المئة فقط من مساحة فلسطين التاريخية، رغم أن تعدادهم كان يفوق ثلثي عدد السكان. وبإنشاء بانتوستان وتسميته «دولةً قابلةً للحياة» ستتخلص إسرائيل من العبء الواقع على كاهلها، والمتمثل في 3.5 ملايين فلسطيني، وستحكم السلطة الفلسطينية أكبر عدد من الفلسطينيين على أصغر مساحة من الأراضي المجزأة – وهي أجزاء يمكن أن نسميها «دولة فلسطين».

حظيت هذه الدولة باعترافٍ من عشرات البلدان – ما يجعل الزعماء القبليون لبانتوستانات جنوب أفريقيا السيئة السمعة يحسدوننا!

لا يَسعُ المرء إلا الافتراض أن «الاستقلال» الذي كثر الحديث عنه، والتغني به، سيعزز ببساطة الدور نفسه الذي أدته السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو، وهو وضع التدابير البوليسية والأمنية لنزع سلاح فصائل المقاومة الفلسطينية. فقد كان هذا أول المطالب التي طُلبت من الفلسطينيين في أوسلو عام 1993 وفي كامب ديفيد عام 2000 وفي أنابوليس عام 2007 وفي واشنطن العام الماضي. وفي الوقت نفسه، لم تُفرَض على إسرائيل ضمن إطار المفاوضات والمطالب هذا أي التزامات أو تعهدات. وكان المفترض إعلان وفاة التنسيق الأمني فور إطلاق أسرائيل أول رصاصة على غزة، إن لم يكن قبل ذلك بكثير.

ومثلما رمزت اتفاقات أوسلو إلى نهاية المقاومة الشعبية المتمثلة في الانتفاضة الأولى، فإن لإعلان الاستقلال هذا هدفاً مشابهاً، هو إنهاء الدعم الدولي المتنامي للقضية الفلسطينية منذ العدوان الذي شنته إسرائيل على غزة في شتاء 2008-2009 وهجومها على أسطول الحرية في شهر أيار/ مايو الماضي، ونمو حملة المقاطعة الدولية بقيادة فلسطينية. غير أن الإعلان لا يرقى إلى مستوى منح الفلسطينيين الحد الأدنى من الحماية والأمان في مجابهة أي هجمات وفظاعات إسرائيلية مستقبلية.

لقد كان اجتياح غزة وحصارها ثمرةً من ثمار أوسلو. فقبل توقيع اتفاقات أوسلو، لم تستخدم إسرائيل مطلقاً كامل ترسانتها من طائرات الـ«إف 16» وقنابل الفوسفور والأسلحة المحشوة بكثافة بالمعادن الخاملة «أسلحة الدايم» لمهاجمة مخيمات اللاجئين في غزة والضفة الغربية. لقد قضى أكثر من 1,200 فلسطيني نحبهم إبان الانتفاضة الأولى في الفترة 1987-1993. أما في عام 2009، فقد جاوزت إسرائيل ذاك العدد في اجتياحها الذي دام ثلاثة أسابيع حيث قتلت بوحشية أكثر من 1,400 فلسطيني في غزة وحدها، ثم عادت لتقتل 174 وتجرح الآلاف هذا العام. وهذه الأعداد لا تشمل الضحايا الذين سقطوا جراء الحصار الإسرائيلي المستمر منذ عام 2006 والذي اتسم بالإغلاقات الإسرائيلية والهجمات المتكررة قبل اجتياح غزة وبعده.

إن ما يقدمه «إعلان الاستقلال» للشعب الفلسطيني، في نهاية المطاف، هو السراب، بانتوستان في ثوب «وطن مستقل». وعلى الرغم من أنه يحظى باعتراف الكثير من البلدان الصديقة، فإنه عاجز عن منح الشعب الفلسطيني الحرية والتحرر. إن النقاش الناقد ــ على عكس النقاش المنحاز أو الغوغائي ــ يتطلب تمحيصاً في مواطن تشويه التاريخ من خلال العرض الأيديولوجي المغالط للوقائع. والمطلوب هو نظرة إنسانية تاريخية للقضيتين الفلسطينية واليهودية، نظرةٌ لا تنكر أبداً حق الشعوب، وتضمن المساواة الكاملة، وتلغي الفصل العنصري، بدلًا من الاعتراف ببانتوستان جديد بعد مرور 17 عاماً على سقوط الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

إن ما حصل في غزة أخيراً من مجازر غير مسبوقة في حجمها ورمزيتها ذات النزعة الإبادية، وما صاحبها من نصرٍ غير مسبوق في ظل خلل هائل في توازن القوى، يجب أن ينهي بلا عودة «صناعة السلام» وما صاحبها من حلول قزمت القضية الفلسطينية إلى ما سمي الإشكاليات بعد الاستعمارية (The Postcolonial Condition) على حساب مبدأ التحرير. وما فعلته غزة 2012 هو بداية تحرير العقل الفلسطيني.

* محلل سياسي مستقل مقيم في غزّة، أستاذ مشارك في الأدب الإنكليزي والدراسات الثقافيّة، مستشار لدى مركز «Al-Shabaka ـــ شبكة الدراسات الفلسطينيّة»
المصدر: الأخبار


» تاريخ النشر: 24-12-2012
» تاريخ الحفظ:
» رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان
.:: http://palteachers.com/ ::.