« صور مجزرة صبرا وشاتيلا بعد ثلاثين عاماً: قصص مجهولة.. معلومة »







جهينة خالدية - السفير:
رائحة مئات الجثث المكدسة في الشوارع، خفّت.. لكنها لم تختف.
رائحة البقايا البشرية لرجال ونساء وأطفال، راكدة في نفوس أحياء نجوا، إنما لا تخرج من عشرات الصور التي تؤرخ الأيام الأربعة الحزينة.
الصور تحمل الأسى، والألم، والدم الجاف فوق الحصى.. إلا أنها لا تنقل روائح الجثث المنتفخة. الصور تتجمد هناك، في الخامس عشر من أيلول من العام 1982، التاريخ الأسود، التاريخ الأليم لمجزرة صبرا وشاتيلا.
لا تعود الصورة لتحكي لنا، أين أصبح هؤلاء؟ كيف دفنوا موتاهم؟ كيف فقدوا أولادهم؟ كم بحثوا تحت الركام، وفي المجاري، وبين النفايات؟ وكم جثة مشوهة قلبوا ليجدوا حبيباً أو قريباً؟
لا تخبرنا تلك الصور بالأسود والأبيض، المحفوظة في الأرشيف، كيف أصبحت الأمهات اللواتي انتحبن حتى كدن يفقدن أصواتهن. ولا كيف يعشن مع الذكرى، ولا كيف يعشن أصلاً؟
مجزرة صبرا وشاتيلا حاضرة في مئات الصور، لكن كيف تحضر اليوم في حيّزها المكاني والزمني؟ كيف هي تلك الأزقة التي شهدت المجزرة الجماعية؟ كيف بنيت البيوت التي سويت بالأرض؟ كيف عادت الحياة إلى الحياة، بعدما جمّدها الذبح والقتل الصامت.
اليوم، في الذكرى الثلاثين للمجزرة، كيف تختلط روائح موت الماضي بمزيج من روائح اللحوم والدجاج، والنفايات والمجاري، وبعض الخضار والفواكه المتعفنة عند أطراف سوق الخضار في صبرا.. وكيف تمتزج كلها بجنون الفوضى اليومية في المخيم؟
إذا ما قرر المرء البحث عن المجزرة وآثارها على الأرض، سيظن أنها لم تعد هنا. ويصعب عليه أن يصدق أن الأزقة عينها، التي امتلأت بأجساد أطفال أو عجائز أو نساء، تغلي الحياة فيها بلا توقف.
كيفما التفت المرء، ومنذ لحظة دخوله مخيم صبرا، ومن ثم مخيم شاتيلا، وصولاً إلى نقطة الرحاب في الغبيري، سيشهد ازدحاماً بألوف من البشر، الذين يروحون ويجيئون بلا توقف. هؤلاء يعيشون حياتهم بالحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية، ووسط فقر وبؤس لا ينتهيان.. إلا أنهم يكملون حياتهم بما استطاعوا إليه سبيلاً.
بعضهم شهد المجزرة، وفقد فيها أخاً وأباً وأماً، وبعضهم الآخر سمع قصصها الأليمة، وقسم ورث ثقلها، وقسم آخر وافد جديد على المخيم، لا يعرف الكثير عن تلك الأيام السوداء.
على الرغم من ذلك، مجرد أن يمشي المرء في المخيم، مستفسراً عن المجزرة وعن أهالي ضحاياها لصادفهم في كل مكان، يحكون، يبكون، ويكررون حكايات "أسىً لا ينتسى".
نسألهم عن أمكنة محددة، مؤرشفة في صور المجزرة، فتجدهم يتهاتفون ليشيروا بأصابعهم إلى الحي الغربي، والتلة، ومنزل أم حسين، وآل المقداد، و"مستشفى غزة"، و"مستشفى عكا"، ودكان محمد الدوخي، وغيرها من الأماكن التي تكدست فيها وأمامها الجثث.
عن سعاد التي اغتصبت
تغيرت هذه الأماكن، من دون أن تخلع عنها ذاكرتها. بعضها لم يعد موجوداً، وبعضها الآخر بُنيت أمامه أبنية جديدة، فلم يعد ظاهراً. إنما على الرغم من ذلك يستحيل على أبنائها أن ينسوا شكلها القديم، أو ينسوا أن أمامها أو فيها، قتلت عائلاتهم.
كيف لنهاد سرور أن تنسى اليوم الذي طرق الإسرائيليون باب منزلها، وقتلوا إخوتها شادي وفريد وبسام وهاجر وشادية، التي لم يتعد عمرها السنة ونصف السنة؟. وكذلك قتلوا جارتهم ليلى وكانت حاملا بأشهرها الأخيرة.
نهاد التي كانت في الخامسة عشرة من عمرها، تقول إنه "بعد ثلاثين سنة، كنت أظن أن أثر المجزرة خفّ في نفسي وتخطيت جزءا من ترسباتها في داخلي، إنما اليوم وأنا أمرّ أمام زقاق منزل أهلي.. يعود ذلك الشعور نفسه. الشعور بالاختناق.. وأكاد أشمّ رائحة الدم".
مأساة قتل أفراد عائلة نهاد لم تنته هنا، ففي اليوم التالي عاد الإسرائيليون ليعذبوا أختها سعاد (14 عاما) ويغتصبوها تكرارا على مرأى من والدها (كما روت سعاد بنفسها في مؤتمرات صحافية سابقة)، ثم عادوا وقتلوا والدها، الذي كان قد أصيب في اليوم السابق بإصابة غير بليغة. ورفعت سعاد سرور في العام 2001 دعوى قضائية في بلجيكا على وزير الدفاع الإسرائيلي (آنذاك) آرييل شارون.
اليوم تقف نهاد في زقاق منزل أهلها في مخيم شاتيلا، وتروي مأساة العائلة باقتضاب، وكأنها غير مستعدة لتكرار أثرها في النفس. بيدها اليسرى تشير إلى المنزل وتعود لتتقدم خطوات، مشيرة بيدها اليمنى إلى مجزرة جماعية أخرى في الحي عينه. مجزرة راح ضحيتها 14 مدنياً، بينها عائلة أبو رضا فياض، الآتية من مجدل زون في جنوب لبنان (والذي نجا من المجزرة وتوفي منذ فترة قصيرة)، إلى جانب جثث أخرى.
الحي هذا، المتفرع من الشارع الرئيسي لمخيم شاتيلا، والذي كان مليئا بالجثث المنتفخة، جُمّد في صورة. والصورة هذه، حفظها العالم جيداً. واحتلت الصفحة الأولى في عدد "السفير" 3009 (الأحد 19 أيلول 1982)، معنونة "مذابح في المخيمات: أنباء عن سقوط 1400 قتيل في مخيمي صبرا وشاتيلا.. في اليوم السابع بعد المئة للغزو الإسرائيلي، وفي اليوم الثالث لاحتلال بيروت".
صراخ يخرج من الصورة
كل عائلة تملك صورها. هم يحتفظون بمجلات وقصاصات ورقية وصحف. كأنهم يحتاجون إلى التماس الماضي عبر صورة. وكأن أم حسين (ميريانا برجي) تستعيد صوتها في مشهد مجمد. هي في صورتها الشهيرة، تنتحب فوق جثث زوجها وابنها وابن شقيق زوجها. "وجدتهم تماماً في البقعة التي تركتهم فيها".
أمام الملجأ في حي العرفان، على مقربة من منزلي. كان ذلك صباح الأحد، في اليوم الأخير للمجزرة. صرخت، وبكيت وكأني لا أصدق موتهم، واليوم وأنا في الثالثة والسبعين من عمري، مازلت أجد فقدهم غريباً".
تقول المرأة: "سريعا قمت بدفنهم، استعنت بالصليب الأحمر والدفاع المدني، تعرفت عليهم وقمنا بدفنهم، لأني كنت مشتتة بين جثث ثلاث أمامي، وبين اختفاء ابني الآخر منذ أيام".
عادت أم حسين لتجد ابنها جريحاً في "مستشفى الجامعة الأميركية". وكان قد أصيب برصاص القنص. تنفست الصعداء لفترة وجيزة، لتعود وتخسر ابنيها الآخرين برصاص القنص بعد المجزرة.
"هذه قصتي وهذه صورتي"، تقول السيدة السبعينية. "أقصد، هذه مأساتي".
بحثا عن صورة
في الشارع الرئيسي لمخيم شاتيلا، وقفت كل من زهور عكاوي من "جمعية بيت أطفال الصمود" ونهاد سرور الناجية من المجزرة، تساعداننا في البحث عن تاريخ صورة. كنا نبحث عن متجر مدمر، ألقيت أمامه جثة لرجل بساق واحدة.
"إنه أبو محمد الدوخي"، تجزم السيدتان. وقد قتل الرجل أمام دكانه للسمانة، وكان معروفا، لأن رجله كانت مقطوعة قبل المجزرة، وساعد ذلك في التعرف على جثته". اليوم، اختفى متجر أبو محمد، وشيّد مكانه (تقريبا) مبنيان صغيران، لوّنا بالأصفر والبرتقالي الداكن، يشغلهما متجر لبيع الهواتف الخلوية وآخر للألبسة وثالث للدراجات النارية.
أرانب أبو جمال
للناس هنا، قصص عادية أيام المجزرة. هؤلاء الذين لم يفقدوا أقارب، لكنهم خسروا بيوتهم وأغراضهم وهجروا عنها لأيام أو أشهر. وعندما عادوا، شمّوا رائحة الموت، البيوت المدمرة والأطعمة الفاسدة. عاد أبو جمال (سعيد الحاج محمد) إلى مطعمه الصغير وبيته، ليجد "البلطات" في حديقة المنزل، ويجد أرانبه متضخمة بعدما أكلت كل ما في المطعم، "شبّوا علي متل النمور". لم يقتل أحد من عائلة أبو جمال، إلا أن الرجل فقد جيرانه من آل المقداد. "عائلة بأكملها قتلت، ولم يبق إلا ابنهم محمد، أزوره بين الفينة والأخرى في منزله بالقرب من السفارة الكويتية. الله يا هذه الدنيا، أخذت منا الكثير". يقول.
كيف استفاق المخيم من المجزرة؟ "ربما لم يفعل"، تقول جميلة شحادة من جمعية بيت أطفال الصمود. "كل شيء مازال راكداً في نفوسنا، إلا أن إعادة بناء بيوتنا ومساعدتنا لبعضنا ساعدنا أن نصمد وألا ننهار بشكل كلي".
تقول شحادة إنه بعد المجزرة كانت كل عائلة فلسطينية تخفي أبناءها الشباب أو الزوج أو الأب، خوفاً من قتلهم أو خطفهم ولم يكن هناك سوى الشابات والأمهات ليزيلوا الركام ويعيدوا بناء سقف يؤويهم. اليوم، لا يشبه المخيم نفسه بشيء. كان ركاماً وحطاما كاملاً".
كنا كالنمل، الذي يحاول أن يحمل الصخور، ننقل الأحجار الثقيلة والدمار في عربات يدوية، نقلة تلو الأخرى، وكلما أنهينا بيتا، ساعدنا جيراننا في الحي نفسه أو حتى ذلك المقابل".
العمل هذا ساعدنا أن ننسى، كان لزاما علينا ألا نفكر بالموت. لم نكن نملك رفاهية الوقت، كنا نعمل ليل نهار، وكنا نعرف أن مصابنا الجماعي يمنعنا من التحامل على بعض. لم نكن نملك إلا خياراً واحدا: الصمود.


» تاريخ النشر: 15-09-2012
» تاريخ الحفظ:
» رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان
.:: http://palteachers.com/ ::.