« المعتقلات الصهيونية.. محطات نضالية على طريق العودة »











وليد محمد محمد/ دمشق
اتسمت الحركة الفلسطينية الأسيرة منذ نشأتها بطابع خاص ميزها عن غيرها من الحركات الأسيرة، فقد تمكنت عبر مراكمة تجارب أفرادها من تحويل زنازين القهر والذل التي أرادها الاحتلال إلى مدارس نضالية وكفاحية تجاوزت تأثيراتها جدران الغرف الرطبة والزنازين المقفرة. وإذا كان الصهيوني موشي دايان منذ عام (1967)م قد وعد بتحويل الأسرى الفلسطينيين إلى حطام كائنات لا تمت للبشرية بأية صلة ومفرغة من كل محتوى إنساني ولن تكون إلا عبئاً على نفسها وشعبها، فإن إرادة الأسرى وإيمانهم بحريتهم وبعدالة ما أسروا لأجله قد أبقيا هذه العبارات فارغة جوفاء، بل وألقيا بها إلى مزابل التاريخ, ودفع الأسرى لقاء ذلك تضحيات كبيرة من دمائهم ولحومهم وخوضهم لمعارك الأمعاء الخاوية مع سجانيهم. وواجهوا كذلك العزل الانفرادي بإرادات لا تقهر وتلقوا العقاب الجماعي والفردي بعزائم لا تلين، لم يفتّ من عضدهم حقد الجلاد وابتداعه أحدث أساليب التعذيب والإهانة بحقهم، ولم تضعفهم رائحة الغاز ولا برك الماء الآسن، بل كانوا قلاعاً حتى وهم تحت وطأة السياط. ورغم سقوط عشرات الأسرى شهداء جراء وحشية سجانيهم ورغم شراسة المواجهات اليومية التي خاضها الأسرى مع إدارات السجون، بقيت هاماتهم أعلى من هامات سجانيهم حتى تمكنوا من انتزاع الكثير من الحقوق التي تحسب لهم كإنجازات اكتسبوها، وإن كانت حالة الأسر التي يعيشونها لا تتفق بحدودها الدنيا مع أبسط حقوق البشر، وهو الحق في الحرية.

ومثلما كان المخيم الفلسطيني في الداخل والشتات خزان الدم للثورة الفلسطينية، فهو كذلك الخزان الذي رفد الحركة الأسيرة بالكثير من مناضليه. وبناءً عليه، أعاد الأسرى رسم صور المخيمات وتشكيلها بأنماط جديدة وبأبعاد تتسق مع واقعهم المعيش، ولطالما حملت إبداعاتهم ومواويلهم داخل السجون اسم المخيم وذكرياته، لما للمخيم من ارتباط وثيق بحق العودة إلى القرى والبيوت التي هُجِّر منا الفلسطينيون على أيدي العصابات الصهيونية، هذا الحق الذي من أجله ولدت الحركة الأسيرة الفلسطينية، بل وانطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة ضد المشروع الصهيوني. وكان لمخيمات اللجوء في سورية نصيبها في ذلك، إذ أسهم أبناؤها الأسرى الأوائل في بناء تجربة الأسر النضالية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. لذلك فإن يوم الأسير الذي يحييه الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن إقامته والذي يصادف (17) نيسان من كل عام يلقى في مخيمات سورية اهتماماً كبيراً وتأكيداً للدور المميز الذي أداه الأسرى المعتقلون والمحررون في حركة نضال الشعب الفلسطيني، وهو اعتراف بحجم التضحيات الكبيرة التي قدموها. لذا من الضروري توثيق هذه التجربة لأنها مفخرة تضاف إلى إرث هذا الشعب وتضحياته وتقديمها للأجيال المقبلة كمشاعل نور على طريق التحرير والعودة. وهنا كان من الضروري نقل رؤية وتقويم من خاضوا تجربة الحركة الأسيرة من أبناء مخيمات سورية وفي هذا السياق فإن الأسير المحرر شحادة حسين الصالح (أبو حسين الشملوني) وهو من مواليد (1928) الشمالنة – قضاء صفد ويسكن مخيم السيدة زينب منذ لجوئه وأسرته إلى سورية يقول:

«التحقت مبكراً بالنضال ضد المشروع الصهيوني منذ عام (1948)، وكانت غايتنا تحرير فلسطين وإعادة اللاجئين إلى ديارهم، ومنذ البداية كان إيماننا بالنصر كبيراً لأننا أصحاب حق. لذلك نذرنا أنفسنا لهذا الهدف، ولكن الله قدر لي أن أقع في الأسر وأنا أقاتل في إحدى مناطق نابلس في الضفة الغربية، سنة (1967) حكم علي بمؤبد وعشرين عاماً أمضيت منها نحو ثلاثة عشر عاماً وحررت في عملية النورس لتبادل الأسرى عام (1979)». ويصف الحاج أبو حسين حياة مجتمع الأسرى بأنها «مدارس نضالية للتعليم والتثقيف والحوار يتجاوز الجميع انتماءاتهم الضيقة وتبقى فلسطين هي الخيمة الجامعة. صحيح أن الأمور في بداية نشوء الحركة الأسيرة كانت صعبة وقاسية، وخاصة في ظل التعتيم الذي كان يفرضه المحتل على أوضاعنا، إلا أننا بفضل الصبر تمكنا من الاستحصال على مكاسب كثيرة». ويؤكد أن الأحكام العالية التي حكموا بها لم تفقدهم الأمل بالتحرر، بل زادتهم إيماناً بأن الزنازين محطة على طريق العودة إلى فلسطين. وتتملك الحاج أبو حسين حالة من الحزن حين يتحدث عن الأوضاع السيئة التي تعيشها الساحة الفلسطينية اليوم والتي لا تتناسب مع تضحيات آلاف الشهداء وعذابات آلاف الأسرى، مطالباً الجميع بالعمل على تحقيق الوحدة الوطنية لأنها الضامن لتحقيق حلم العودة. وختم حديثه بتوجيه التحية للصامدين في زنازين الاحتلال وطالبهم بمزيد من الصبر، والفجر لابد قادم».

بالتأكيد لا يمكن أن ننسى ما قدمته المرأة الفلسطينية من تضحيات في ركاب الحركة الأسيرة، فقد عرفت مثل إخوانها وحشية الجلاد وعتمة الزنازين وبرودتها وقاست التعذيب وكل أشكال القهر النفسي. وفي هذا السياق فإن الأسيرة المحررة عليا أبو دية من مواليد القدس عام (1943) بلدتها الأصلية الظاهرية (قضاء الخليل) وتسكن في مخيم اليرموك قرب دمشق منذ تحريرها في عملية النورس لتبادل الأسرى، حكم عليها بالسجن (15) عاماً أمضت منها ما يقارب ستة سنوات. تقول عليا إن المرأة الفلسطينية لم تبخل بالعطاء والتضحية، ففلسطين تستحق ذلك، وهي منذ الصغر نذرت نفسها في سبيل تحرير كل فلسطين وترجمت ذلك بمشاركتها بعدة عمليات عسكرية ضد أهداف صهيونية في الضفة الغربية، الأمر الذي أدى إلى وقوعها في الأسر. وتضيف أن تجربة الأسر كانت لها بمثابة مدرسة نضالية تعلمت فيها الكثير رغم كل ظروف القهر والحرمان المفروضة على الأسرى. وتستذكر عليا قائدات الحركة النسائية الأسيرة اللواتي كنّ بحجم المسؤولية في تلك الفترة، وكان منهن المناضلة رسمية عودة وعفيفة بنورة وأخريات. وتنظر عليا بحزن للوضع الذي آلت اليه القضية الفلسطينية اليوم وتقول:

لم نقدم كل هذه التضحيات لنصل إلى دويلة ممسوخة أو سلطة وهمية، بل قدمنا آلاف الشهداء لنحرر كل شبر من أرض فلسطين. وتوجهت عليا بالتحية للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الصهيوني الذي يثبت التاريخ يوماً بعد آخر إمكان هزيمته والانتصار عليه، وطالبتهم بالصبر والمصابرة لأن الفرج لا بد قريب.

أما الأسير طه عبد لله رشيد من مواليد (1951) في الأردن لأسرة فلسطينية هجرت من مدينة يافا ويسكن مخيم اليرموك فقد خاض تجربة الأسر بعد أن حكم عليه بالسجن مدى الحياة أمضى منها (15) عاماً وحرر بعملية تبادل عام (1985). يقول المناضل طه:

إن تجربة الأسر حفرت في وجدانه عميقاً، ولا سيما أنه خاضها في سن مبكرة من عمره، وقد أسهمت في صقل شخصيته وتوجهاته، وزادته إصراراً على التشبث بخيار المقاومة والنضال لتحرير فلسطين، ويصف مجتمع الأسرى بأنه مجتمع مثالي رغم قساوة العيش فيه، فالأسرى يتبادلون خبراتهم الحياتية لتتشكل لدى الكثيرين منظومات معرفية وأخرى فكرية. ولعل أكثر ما يلفت الانتباه فيها حالة الإيثار السائدة بين الأسرى. وطالب طه كل الأطراف الفلسطينية بأن يكونوا بحجم تضحيات الشهداء والجرحى وعذابات الأسرى والعمل على ضرورة بناء الوحدة الوطنية لأنها صمام الأمان نحو تجسيد حلم العودة والتحرير.

ورغم تغير طبيعة الصراع في العقدين الأخيرين، فإن ذلك لم يمنع اللاجئين في سورية من الاستمرار في أن يكونوا جزءاً من الحركة الأسيرة الفلسطينية. فالأسير المحرر الشاب أسامة حسين صالح، مواليد (1975) في مخيم سبينة قرب دمشق وهو مكان إقامته منذ لجوء أهله إليه من قرية أكراد البقارة – قضاء صفد، حكم بعد أسره من قبل الجيش الصهيوني بـ(15) عاماً أمضى منها (7) سنوات متنقلاً بين عدة معتقلات داخل فلسطين المحتلة حتى حُرِّر إثر صفقة تبادل عام (2005) بين حزب الله والكيان الصهيوني يقول:

إن حياته داخل مخيم وحلم العودة إلى أرض الآباء والأجداد ومشاهدة صور الشهداء على جدران المخيم باستمرار والمشاركة في الفعاليات والمناسبات الوطنية، كل ذلك أسهم في دفعه للالتحاق بالعمل المقاوم ضد الاحتلال منذ الصغر، حيث أتيحت له فرصة النضال والاشتراك بعمليات عسكرية ضد أهداف صهيونية في الجنوب اللبناني المحتل قبل عام (2000). ويضيف أسامة أنه أسر في إحدى المواجهات، وكان هذا متوقعاً بالنسبة إليهم، وكانت الشهادة واردة أيضاً وكان يسمع الكثير عن قصص الأسرى وعذاباتهم، وهذا ما زاد من صبره ويقينه بأنه سيتحرر يوماً ما. أما عن مجتمع الأسرى فيقول أسامة إنه مجتمع مذهل تعلمت منه الكثير وأسهم في بناء وعيي وتصويب نظرتي إلى الأمور المختلفة. كذلك تمنى أسامة أن تتاح له فرصة العودة للنضال ضد العدو الصهيوني الذي لا يفهم إلا لغة واحدة وهي لغة القوة. وعلق أسامة على ما يجري في الساحة الفلسطينية اليوم من تشويه لنضال الشعب الفلسطيني وتنكر لتضحيات شهدائه وأسراه، وهذا معيب. لكن التاريخ لن يرحم من تخاذل أو فرط بكل ذلك. وتوجه أسامة بالتحية للأسرى في سجون الاحتلال بصفتهم الضمير الحي المعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني وطموحاته، وبشرهم بالفرج القريب والنصر الأكيد لإيمانه بعظمة الشعب الفلسطيني وتمسكه بخيار المقاومة.


» تاريخ النشر: 07-04-2011
» تاريخ الحفظ:
» رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان
.:: http://palteachers.com/ ::.