الراحل الذي سكن فينا ولم يغادر



بقلم: د. صلاح الدين سليم أرقه دان - صيدا:
يوم الأضحى، وعلى باب حرم مسجد أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في عاصمة إسبانيا مدريد، وعقب إقامة الشعائر وتلقي تهاني المصلين، صعقني خبر وفاة سماحة قاضي صيدا مفتي صور الشيخ محمد صلاح دالي بلطه، عقد الخبر لساني إلا عن قول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) أرددها بلساني فيما أمنيتي أن يكون الخبر مختلقاً أو أن خطأ وقع في نقل الاسم، حتى تمنيت أن يكون ناقل الخبر كاذباً، فالشيخ محمد دالي بلطه علامة فارقة في تاريخ مدينتنا المعاصر، شاب طموح، وقارئ حافظ، وفقيه متبحر، وشيخ وقور، ومفت رؤيوي، وداعية حمل مسؤولية التبليغ بالمتاح في عصر الانغلاق، ومسالم في عصر العنف الطائفي المذهبي، إنه رجل توازنات إلا عندما تنتهك المبادئ والخطوط الحمراء التي لا يصح من مسلم السكوت عليها.
عرفته قبل أن يلتحق بأزهر بيروت، جمعتنا ثانوية صيدا الرسمية، في مرحلتين تعليميتين مختلفتين، وكان في الصف الأول المتوسط، شاباً مليئاً بالحيوية متعطش للمعرفة متحمس لأن يكون (شيخاً)، وسألني عن رأيي بنيته الالتحاق بأزهر لبنان في بيروت، ونصحته بأن يتابع دراسته في الثانوية حتى مرحلة الثانوية العامة (البكالوريا قسم ثان) ثم يلتحق بجامعة الأزهر في مصر ليجمع بين ثقافة العصر وعلومه وبين العلوم الشرعية، ولكن قراره كان أن يترك الثانوية وأن يلتحق بأزهر لبنان، على أن يتابع ثقافة العصر. وفقه أبي حنيفة (وهو مذهبنا معاً) يحضّ طالب العلم والعالم على أن يكون عالماً بعصره.
ثم سألني عندما التحق بأزهر مصر عن التخصص الذي أنصح به، فقلت: (أصول الفقه) إنه علم يتيم بين المسلمين اليوم، وهو مفتاح التشريع، وأصل ما وصلت إليه البشرية المعاصرة من رقيّ في التقنين في مختلف مجالات الحياة. وبالفعل أولى أصول الفقه اهتماماً رفعه إلى مصاف من تبنى عليه آمال أهل العصر في إبراز إسلام محمدي يعمل من أجل (الإنسان) بعيداً عن الإضافات التي زادت مع الأيام والأهواء والفرق.
ومضت السنون، وكان الشيخ محمد خطيب منبر، ومدرساً، وداعية، نلجأ إليه في مناطق الانتشار الجديدة، فقد ابتدأنا من صيدا وامتددنا إلى إقليم الخروب، وبوابته (برجا). ثم قدّر له الله أن يكون على رأس إدارة الأوقاف تحت الاحتلال الإسرائيلي، وقيادات المقاومة ممتحنة مبتلية إما بالاعتقال أو الاستشهاد أو الإبعاد، كان الشيخ محمد صلباً في مواجهة الاحتلال يستمد من إسلامه الشجاعة والمعاني والمواقف التي تخلى عنها المدعون يومها، كان صموده داخل المدينة مسانداً لدور صاحب السماحة مفتي صيدا السابق الشيخ محمد سليم جلال الدين (رحمه الله)، ومتمماً لصمود المعتقلين على أيدي الاحتلال الإسرائيلي في أنصار - وما أكثرهم - وعلى رأسهم المرحومين الشيخ محرم عارفي والشهيد عصام البغدادي، والحاج زهير القبلاوي (حفظه الله)، أو مهجر في بيروت، وهي مرحلة لم يتوقف فيها تواصلنا معاً عبر الهاتف والوسطاء بالقدر الذي تسمح به ظروف الاحتلال، ولقد حاول المغرضون أن يقطعوا حبائل الودّ بين الشيخ محمد وبين إخوانه المبعدين أو المهجّرين في بيروت، ولم يفلحوا لأن ما يجمع الشيخ بالدعوة وبمقاومة الاحتلال لم يكن المصلحة الشخصية ولا العابرة.
وصار الشيخ الواعد قاضياً، زفّ إليّ خبر اختياره سماحة المستشار الشيخ فيصل مولوي (شفاه الله) قبل إعلانه رسمياً، بابتسامة المطمئن الواثق من حسن اختيار لجنة الاختبار والتعيين، ومن موقعه ازدادت مساحة الألم الذي يعتصره على أوضاع المسلمين في واقعهم الاجتماعي الأسري، وفي نشاطهم الوقفي، فمن موقع القضاء الشرعي اطلع على خصائص البيوت وأسرارها، وسبر غور الرجال والنساء في مظاهرهم وفي حقائقهم، كان ثقل الأمانة التي يحملها كبيراً لا يحمله إلا الكبار، وهو إرث صيداوي يحمله القضاة الشرعيون والمفتون والعلماء كابراً عن كابراً، يعرفون ويكتمون صوناً للأعراض وحرصاً على تماسك الأسر، وفوق ذلك تألـّفاً وترميماً للعلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، وحرصاً على الكرامة التي يهدرها أصحابها جهلاً ورعونة واستجابة لخطوات الشيطان. بما في ذلك بعض المعممين الذين عاملهم بحكمة الداعية وليس بسيف القاضي. مع اختلافهم معه في الموقف السياسي والعلمي والسلوك.
صور لا تعد ولا تحصى من مواقف هذا الشاب الشيخ القاضي المفتي العامل في حقل التربية والتعليم، كل واحدة منها تضيف درساً جديداً إلى دروس الحياة منها جلسة خاصة جمعتنا مع أحد مهاجرينا في كندا، فكنا ثلاثة من ثلاثة أجيال أكبرنا الزائر الكريم وأوسطنا المتكلم وأصغرنا عمراً الشيخ محمد، قال الزائر بتهكم واستهزاء: يا شيخ صلاح، ما هذا الواقع الذي تعيشه الدعوة الإسلامية اليوم؟ وتطرق إلى مواقف ونماذج فردية محرجة، وكان يتوقع أن يؤيده القاضي في دعواه وأن يجاريه في النيل من الدعوة وأهلها، ولعلي توقعت ذلك أيضاً لأن النماذج والمواقف التي ذكرها مهاجرنا الكندي مما ينكره الشيخ محمد ويواجه به أصحابه وأصحابهم، فأجبته: يا شيخ، كل ما تنتقده وتلاحظه من الأخطاء والتقصير والمثالب، أتحمل قسطاً منه، فقد كنت أحد الذين تصدوا لهذا العمل، والزاد يومها قليل، والطريق شاق طويل، والخبرة في خطواتها الأولى، وهو جيل من أفراد ربيناهم، أو قرّبناهم وقدمناهم باجتهاد منا وليس تعمداً للإساءة. فنظر الشيخ محمد إلينا وقال: ما نراه الآن وننتقده نتحمل جميعنا مسؤوليته، فبناء جيل وإقامة حركة وتنشيط دعوة لا يقع على عاتق فرد واحد ولا أفراد، ولا جماعة واحدة ولا جماعات، وإنما هي مسؤولية كل فرد وكل جماعة على ساحتنا. وزاد: العاقل من يعمل للإصلاح ويبادر إلى العمل. ولكل مجتهد نصيب. فأسكت صاحبنا عن استهزائه وتجريحه إلى آخر الجلسة.
أخي محمد، سيفتقد بك الناس أباً وأخاً وصاحباً وقاضياً ومفتياً، وأنا وإخوانك في (أنتج) سنفتقد بك أول راع لنشاط برامج (إثراء) الذي انطلق من صور، المدينة التي أعدت إليها يا أبا أحمد وجهها المسلم الناصع خلال سنوات قليلة، وبنيت فيها من الصداقات والعلاقات بين مختلف الطوائف والفرق، ما رأيناه في مراسم وداعك الأخير. إن برامج (إثراء) التي بدأت بابتسامة تشجيع منك بثلاثة وثلاثين مشاركاً ومشاركة في (أزهر صور) شتاء 2008م قد وصلت الآن إلى ألف وخمسمائة مشارك ومشاركة من العاملين في خدمة المجتمع والتدريس الديني في كل مناطق لبنان، من حدود النهر الكبير في الشمال وحتى الشريط الحدودي جنوباً، ومن ساحل البحر إلى الجبال الشرقية، برامج تطور مهارات التعليم والإعلام والإدارة. ومن الجميل والمفيد أن نجد من يخطط ومن يوضح الرؤية، ولكن لا يتم ذلك ولا يحقق أهدافه بدون تنفيذ، ولا تنفيذ بدون نية خالصة، وإمكانيات فاعلة، وتعاون وثيق، وتكاتف متين، ولقد كانت (أنتج) الفكرة، وكانت (إثراء) الوليد البكر، وكانت (صور) المنطلق العملي. أثابك الله خير الثواب وجعل ذلك في ميزان حسانتك، وستبقى معنا ما حيينا في برامجنا الحالية والمستقبلية وفي دوراتنا التأهيلية، إن شاء الله.
للشيخ محمد فضائل وشمائل يقابلها – ككل البشر – ملحوظات وأخطاء، ولكن الإنسان يؤخذ بكله لا بالتجزئة، وما من إنسان إلا له وعليه، يؤخذ منه ويردّ عليه إلا المصطفى (صلى الله عليه وسلم). ودعاؤنا لشيخنا الذي رحل عنا ولم يغادرنا:
"اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، ونقـّه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدَنَس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار".
اللهم إن كان محسناً فزد في حسناته، وإن كان مسيئاً فكفـّر عن سيئاته، ولقـّه الأمن والبشرى، والكرامة والزلفى، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لأبي أحمد واجعل مثواه الجنة مع من أحب من المرسلين والنبيين والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
تاريخ الاضافة: 21-11-2010
طباعة