.

عرض المقال :تُحاصِرُني الأَمكِنة

  الصفحة الرئيسية » ركـن المقالات

تُحاصِرُني الأَمكِنة

http://www.christusrex.org/www1/ofm/ag/Jaffa_gr.jpg

 عدنان كنفاني
وشاحٌ من حرير يُعانِقُني، ويشدُّني إلى الدائرة البعيدة عن هيكلي المطحون، القريبةِ من أنفاس روحي.. أمضي إليها، أبحثُ عنها لأجدَها أقربَ إليَّ مِني.

شرفةٌ لم يفارقْها طنينُ النحل، أطلُّ منها على عالم صاخب، ناسٍ يتحركون في مساعي البحث عن أودِ الحياة، وآخرين يصهرون تعبهم في بيادق الغير، والحياةُ تمضي رتيبة.

عبد الهادي، يسندُ كرشه على بدن الدراجة الهوائية، يدوّرُ شفتيه وسط فكّيه السميكين، ويغرزُ رأسه بين كتفيه فتبدو عيناه الصغيرتان كعيني فأرٍ يتوثب للانقضاض على شيء يُؤكَل، يتوقفُ أمام المساجد هُنيهات ليقرأ إعلاناتِ الوفيات، يعرفُ من خلال خبرةٍ طويلة أيّ المتوفين في هذا اليوم الأيسر حالاً، وأيّ الأهلِ المفجوعين القادرين على تقديم أقصى البذل على روحه.

شارعٌ كم حمل مني بوحاتِ أنين، وكم نَبَضت خطواتي الراجِفَة على الرمال الصفراء المتسربةِ إليه من صحراءَ قريبة، وكم عايش سكونيَ الباحث عن هدأة الروح..

طيفُها الموشح بلهفتي يعبر من خلف الزجاج، فتتملكني رهبةُ اللقاء.

تتقابل عيوننا، وتتلامس أصابعُنا، رعشاتٌ كم كنت أنتظرها، وأحسّها تجري في عروقي، كم أوصلت إلى قلبي نبضاتِ الشوق وهي تلثم بصفائها البريء أصابعي.
سوقٌ شعبية تزدحم فيها المحلات البسيطة، عشقتُها.. ربما لأنها كانت تدوّن معي تلك الذاكرة التي ما غابت عني، بل حاصرتني، فاستعذَبتُ الحصار..
بائع الشراب، معرض الأحذية، سوق الملابس، سوق الأسماك، التحف، المصنوعات البدائية، لعب الأطفال.. سوق يعلن عصيانه على تعب الناس، ومقهى تترامى في بهوه صفوف الكراسي حول شاشة كبيرة، وناس يتفرجون على مآسيهم..

امرأة عجوز تتعتب الرصيف، وتفرش بين عربات بائعي الفاكهة سلال البصل، وحزمات خضراء صغيرة، وتداري بين طيات ثوبها الفضفاض بكاء حفيدها.
هناك.. في الأبنية الشاهقة، عند منصّات القول، جانبتُ صنوفَ العبث، وأعلنتُ نفسي إماماً، فكانت مطواعةً لي كبناني..
تجلس إلى جانبي، وكلما ابتعد الجسدان يتلاصقان أكثر، وأربعةُ عيونٍ تتجاوز المسافات بحنكة العارفين، ولا تتعب من البحث عن توائمها.

النافذةُ الصغيرة مفتوحةٌ على حركة الناس، وعبد الهادي يتجمّد أمام إعلان يشمّ منه رائحةَ غداءٍ دسم، تنفرجُ أساريره، فقد أمسك بفريسة ذات شأن، مطَمئِناً كرشهُ الكبير أن ستعيشَ فرحاً على مائدة الفقيد، ولن يكون الثمن أكثر من قراءة الفاتحة، وافتعال حزن ولوعة.

جلسنا في الركن الصغير المطلِّ على سوق تختلط على جانبيه المحلات عشوائية، وتمتد إلى منتصف الشارع تشارك الناس ازدحامهم، وأصوات الباعة صاخبةٌ، وطاولاتُ وكراسي المقاهي، والنراجيل المنتشرة بينها تبعث في فضائه رائحة غريبة تحشر روائح اللحم المشوي والفراخ المعلّقة على أسياخ حمراء، والرز والمرق لتشكل كلُها جوّاً ما زال يعبر الشال الحريري الذي يشدّني إليها، ويُسكنها في ذائقتي.
ـ هل أنت جائع.؟
ـ نعم..

الدرج الدائري القصير ضيقٌ لا يكاد يتسعُ لشخصٍ نحيل، أحشرُ نفسي معها، أعانقُ يدَها، نُخفضُ رأسينا لنعبر السقفَ الوطيء، ونستقرّ بالكاد على كرسيين حول طاولة ضيقة، نتفرّج من النافذة العريضة على الناس الغادين والرائحين في السوق، ننتظر إطلالة النادل الطيب لنختار من ورقة مقوّاة مغلّفة بستار من النايلون الأبيض المتسّخ لم تتبدل منذ عهد بعيد غداءنا.

تمر الأيام متثاقلة بن الـ هنا والـ هناك، تحمل بين ثوانيها صوراً تسكُنني وتأبى أن تغادر قفص صدري..
أين أنا بينهما.؟
هل عند هيكل الجسد المطحون بعذابات لا تعد ولا تحصى.؟ أم عند مسرى الروح المعجونة بذاكرة الأمكنة والناس والماء والفضاء.؟

النافذة الصغيرة مفتوحة تنتظر إطلالة الباحث عن سلوى، عربة زرقاء تعبر الشارع وصرخات عجوز يجرها بإعياء بالغ أعرف أنه يتقصّد أن يسمعني صوته كي أشير إليه ليأتي لي بربطتين من الخبز.

كل شيء هادئ رغم صليل أصوات الباعة المتجوّلين، فقد أصبحت مكمّلة للطقوس اليومية التي يعيشها الحيّ، وأنا..

عبد الهادي يمشي الهوينى وراء النعش المحمول على الأعناق، وعيناه الفأريتان تتفرّسان في وجوه الناس، يكتشف أيهم الأقربَ إلى المرحوم، يلتصق به، ويسمعه بين وقت ووقت ترحماته على الفقيد الغالي وكفاه تعودتا مسح وجهِهِ السمين.

حدائقَ مزيّنةٌ بألوانٍ من الزهور، والشمسُ تعلنُ أفولَها، تجرُّ معها حماستَها لتبعثَ في صدري سكونَ الأمان، وريحُها الطيّب، وفنجانُ الـ "نسكافيه" يُوصلُ إليها لمساتِ شفاهي لحوافيه.

غابةٌ من النمور بأثوابها المخططة تحيط بنا، وكلماتٌ تعزف ألحانها بيننا، تقول: هي بعض حروفِ الذاكرة التي تنسجُ كلما أوغَلَت غَوصاً في الذات وجودَها، وولادَةً لأمكنةٍ تحفرُ تفاصيلَها في كينونة بقائي.

مركبٌ يتهادى على صفحةِ الماء، ومراكبُ أخرى تنتظر الإبحار، راسيةً على الشاطئين، والجسرُ العتيقُ يهتّز بهيبةٍ تحت خطواتِنا المعبأة بالشوق، وكلما عبَرَت بنا الخطوات بين عشاقٍ يمارسون البوحَ البريء، أشعرُ بكفي تتعرقُ في كفها، فأشدُ عليها..
ـ هل تُرانا نُشبههُم.؟
ـ ليس كمِثلنا أحد..

المكان بعيد، والسيارةُ تمخر بسرعة كبيرة عُبابَ الشارع الفسيح.. حفرةٌ هنا، وسيلُ ماءٍ هناك، وازدحامٌ عند كلِّ مفصل، وشتائمُ السائقين الغاضَبة، والسيارةُ ماضيةٌ بنا تُؤَصلُ ما زالت أفراحَها في نفسي.

عبد الهادي يمرٌّ بدراجته الهوائية من تحتِ نافذتي الصغيرة، ينظرُ إليَّ بغرابة، يَتسمّرُ في مكانه، تغلُبهُ الدهشة، يتلعثم.. لكنه يواصلُ النظرَ إليّ..

ـ هل أنتَ.. أنتَ.. هُنا......!
وقبل أن أجيب، يعتلى دراجتَه ثانيةً، ويسندُ كَرشهُ على بدنِها العاري، وينطلقُ وهو يردد:
ـ قرأتُ إعلانَ موتِكَ معلقاً على باب المسجد، وووووووو..
غاب صوته بعيداً.
هناك.. عند تلك الأمكنة التي ما انفكت تُحاصرُني، عند الكثيرِ مني، عند أشيائي الحيّة، يَشدُّني الشالُ الحريريُ، وروحي.. وهي.. ليعلنوا كُلُهم ولادَتي الجديدة.
 « رجوع   الزوار: 1146

تاريخ الاضافة: 02-01-2013

.

التعليقات : 0 تعليق

« إضافة مشاركة »

اسمك
ايميلك
تعليقك
4 + 7 = أدخل الناتج

.

جديد قسم ركـن المقالات

«الأونروا» أمام اختبار العجز والهدر

آثار قاسية يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان.. ممنوعون من البناء في المخيمات والتملك خارجها

«كلاوس» تؤكد على أولوية إصلاح التعليم ورفع جودة التعليم في مدارس «الأونروا»

لاعب كويتي ينسحب من بطول المبارزة العالمية في بلغاريا

الشاعر الفلسطيني ياسر الوقاد يفوز بجائزة مسابقة الكتابة الموجهة للطفل على مستوى العالم العربي 2023

القائمة الرئيسية

التاريخ - الساعة

Analog flash clock widget

تسجيل الدخول

اسم المستخدم
كـــلمــة الــمــرور
تذكرني   
تسجيل
نسيت كلمة المرور ؟

القائمة البريدية

اشتراك

الغاء الاشتراك

عدد الزوار

انت الزائر :287625
[يتصفح الموقع حالياً [ 101
تفاصيل المتواجدون

فلسطيننا

رام الله

حطين

مدينة القدس ... مدينة السلام

فلسطين الوطن

تصميم حسام جمعة - 70789647 | سكربت المكتبة الإسلامية 5.2

 

جميع الحقوق محفوظة لرابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان ©2013